خلال فترة تزيد على الأربعين عاماً، قام البودا باتباع الأسلوب التدريجي في تهيئة سامعيه - تمهيداً لتبيان تعاليمه النهائية في “سجّل اللوتس”. كانت طريقة التدريج في تبيان المبادىء والمفاهيم الأساسية ضرورية لأن عقلية المجتمع آنذاك كانت من التحجرّ والتقييد بحيث كان من الصعب قبول الرؤى المتحررة والمبادىء الثورية (في مجال الوصول إلى الإنارة) بدون التحضير والتدريب الذي استمر عبر المراحل السابقة.
بذلك فإن “سوترا اللوتس” سجلّ يجمع ويكامل كل ماسبقها من تعاليم (لأجل التحرر من المعاناة). ويمكن اعتبار “سوترا اللوتس” على أنها أول وثيقة في التاريخ الإنساني حول تساوي جميع الناس دون أي تمييز في حقهم وإمكانيتهم الوصول إلى أعلى مستوى في الحياة، وهو وضع الإنارة والسعادة الحقيقية.
تشير السوترا - عبر ماتنصّ عليه محتوياتها من رؤى مجازية – إلى وجوب احترام كرامة كل إنسان وإزالة أي تصنيف يوجد في المجتمع كأساس للتفرقة بين الناس. فلا فرق بين فرد وآخر في إمكانيته الوصول إلى الإنارة - والتي هي أعلى حالات الوضع الإنساني - دون أي اعتبار للفروقات بين الذكر والأنثى، أو اهتمام بالفروقات الشخصيّة، أو الفروقات في المركز الإجتماعي كالثراء أو المنصب، وكذلك الفروقات في التعليم أو المستوى الفكري، أوالفروقات المبنيّة على العمر وأي فروقات أخرى كالإنتماء العرقي أو الشعوبي، وحتى التمييز على أساس المظهر أو الشكل الجسدي أو الجمال – كل هذة الفروقات وأسس التمييز قد أزيلت من حقل إنارة الفكر الإنساني.

ولاشك في أن إعلان سوترا اللوتس عن وجود البودا أو الإنسان المنار في جسد أنثوي كان ثورياً في مجال الفكر الإنساني. بمعنى آخر، يمكن رؤية سوترا اللوتس كسرد لحلم عميق لكل إنسان - حلم في زوال أي إمكانية للتهديد أوالإساءة والمعاناة، وأمل في حق التمتع بجوّ الأمن والسعادة والثراء. وليس هذا مجرد رؤيا شاعرية، بل وضع يتطلّب حكمة وقدرة وجهد في فعاليات واقعية (لتحقيق تلك الإمكانية من حياة الإنارة). وتحقيق ذلك لايتم بقدرة خارجية، أو بإجراء تغيير خارجي في ظروف المجتمع أو في تصرفات الآخرين – بل في تمكين الفرد ذاته من التمتع بأعلى مستوى من القدرة وذلك نتيجة إنسجام حياة الفرد مع طبيعته )بما يمكنّه من التغلب على الصعوبات التي يجابهها في حياته، وتحويلها إلى ثراء من السعادة والقيمة(.
تقديم عام لسوترا اللوتس 🔗
هناك دافع فطري في الإنسان يتوق لأجل معرفة حقيقة الحياة وطبيعة الوجود.
فعبر التاريخ مثلاً: طرحت الفلسفة الإغريقية السؤال الأساسي: “ماهي حقيقة الواقع الخارجي؟” ولأجل الإجابة على هذا السؤال جرت تأملات فلسفية ومراقبة لظواهر"الطبيعة الخارجية" التي تؤثّر في حياة الإنسان.
أما في الفلسفة الشرقية فقد كان السؤال الأساسي المطروح: " ماهي حقيقة الواقع الضمني؟" أي أن الفلسفة الشرقية اتجهت أولاً إلى التركيز على ظواهر" الطبيعة الداخلية" للفكر والمشاعرالتي تسيّر حياة الإنسان.
والسبب في التركيز على التأمّل الداخلي هو أن كل فرد - قبل كل شيء - يتوق إلى الخلاص من المعاناة وإلى الشعور بالأمن والقدرة (لأجل التغلبً على الصعوبات). وهذا المنظور في البحث عن المعنى يضع المشاعر الضمنية والعلاقات مع الآخرين في مركز الأولوية في التركيز والإهتمام.
ففي حين ساهم كثير من من الفلاسفة في الغرب في التساؤل حول ماهية حقيقة مظاهر الطبيعة ، وكان ذلك بالطبع هامّاً وضرورياً – كان السؤال الأساسي في الفلسفة البوذية: كيف يمكن اتقاء المعاناة والإستمتاع بحياة من القيمة والسعادة؟ ولاشك أن هذا الهدف أيضاً ذو أهميّة وضرورة.
إن كلا الإتجاهين في الفلسفة تعبير عن الرغبة في الإدراك: معرفة ظواهر العالم الخارجي وإدراك حقيقة العالم الداخلي. ومن خلال الإعتماد على مبادىء الفكر الصحيح يمكن التوصّل إلى الحكمة في رؤية أبعاد الأمور وإدراك حقيقة بالغة الأهميّة، هي أن الوضع المحيط بالفرد لاينفصل عماّ يجري ضمناً في نفسيته.
البحث عن الحكمة 🔗
إن نجاح معالجتنا للواقع يتعلق بمدى نضج التفكير الذي نستخدمه. فالنتيجة المرجوّة تتحقق فقط عبر الاسلوب الأسلم والأكثر عقلانية. لذلك فلأجل التمكنّ من النجاح في التغلبّ على المصاعب لابد لنا من استخدام حقل من الفكر ذو قدرات عالية تمكّننا من التغلّب على تحديات الواقع، وهذا يبدأ من استخدامنا للتفكير بوضوح وعقلانية وتجردّ عن الحماوات العاطفية.
الفكر الصحيح هو ما يسيّر الفرد إلى القيام بفعاليات تضمن نتائجاً أفضل. لذلك فإن أهم أمر في حياة الإنسان هو التوصّل إلى حقل الحكمة التي تمكّن من تحويل المصاعب إلى حلول وفوائد . هذا الحقل الفكري الرائق القيمة هوما يدعى بحقل الإنارة - موجود كإمكانية في حقل العقل الباطن في حياة كل إنسان.
وتتفق كل المدارس البوذية عموماً على وجود هذا الحقل من “عقل الإنارة” في حياة الإنسان – إلاّ أنها تختلف فيما بينها حول الطريق الذي يؤدّي إلى الوصول إلى جعل إمكانية الإنارة حقيقة واقعية. والإعتقاد العام في مختلف التقاليد البوذية - باستثناء فلسفة اللوتس - هو أن ظهورهذا الوعي من الإنارة في فكر الفرد يتطلب جهداً وممارسات تمتد عبرعددٍ من الحيوات. فمثلاً تقول الكاهنة “تنزين بالمو” Tenzin Palmo من بوذية التيبت في كتاب : Cave in the Snow أن " كهنة اللاما قد أشارو إلى أنه إذا استطعت الوصول إلى الإنارة في ثلاثة حيوات متتاليات، إذن فأنت في إنجاز عظيم السرعة" (ص 115) – وهذا الإتجاه الفكري في الوصول إلى الإنارة بعد عدة حيوات (وليس في الحياة الحالية) – هو اتجاه مشترك بين المدارس البوذية التقليدية (والتي تضع أيضاً حدوداً تعرقل من وصول النساء إلى الإنارة في جسدهم الأنثوي).
وقد بينّت الكاهنة التيبتية المذكورة (ص 155) أن الكهنة الذكور كانو يصّلون لأجلها لأن تتخذ جسماً ذكرياً في حياة قادمة حتى يمكنها من الوصول إلى الإنارة.
تتجاوز فلسفة اللوتس كل هذة التقييدات التي لاتستند إلى منطق. وتزيل فلسقة اللوتس من أمام الفرد أيّاً من التحديدات أو التحديّات التي تفترض عائقاً في الوصول المباشر إلى الوضع الأعلى لحياة الفرد. بذلك تعتبر سوترا اللوتس سجّلاً ثوري التعاليم - إذ أنها قد أتت بمفاهيم متطورة بما يجعل منها سجلاًّ روحياً من المعتقدات الإنسانية من نوعية أعلى. وهناك عديد من الفرق البوذية التقليدية لاتزال في تخلّف عن إدراك التعاليم التقدميّة لسوترا اللوتس.
تصنّف التقاليد المختلفة التي تدرج تحت اسم “البوذية” في قسمين رئيسيين:
- الهينايانا Hinayana(المركبة الصغرى) والتي تسمىّ ايضاً Theravada أي بوذية الأقدمين،
- الماهايانا Mahayana(المركبة الكبرى) أو البوذية المتطورة.
وفي مجمل تلك التعاليم كان التركيز منصبّاً على الممارسة التدريجية الطويلة الأمد (للوصول إلى وضع الحريّة من المعاناة).
ولكن سوترا اللوتس - والتي هي قمة البوذية المتطورة - اعطت إمكانية تحقيق وضع الإنارة في الحياة الحالية دون تأخير.
وبذلك فهي تختلف عن بقيّة التعاليم السابقة لها في هذا الفارق الهام - وكذلك في أمور أخرى أساسية.
لم يكن قبول تعاليم اللوتس (الثورية في محتواها) سهلاً. ذلك ان المنافسة الدينية بين مختلف المعابد، وتركيز طبقة الكهنه في كل من المدارس المختلفة على مجردّ اتباع الطقوس التقليدية الخاصّة بكل منها، هذة الممارسات السطحية لم تساعد على نشر سوترا اللوتس بين الناس العاديين.
وظلّت فلسفة اللوتس كتاباً نظرياً محصوراً ضمن قليل من الدارسين – حتى ظهور نيتشيرين Nichiren في القرن الثالث عشر، والذي قد كرّس حياته لتنظيم وشرح مبادئ فلسفة اللوتس، بما بدأ مرحلة انتشارها ضمن عامة الناس، وذلك رغم ممانعة كثير من المدارس البوذية القائمة على تعاليم سابقة مرحلية (ولايزال الكثير من المدارس البوذية في نفس الوضع التقليدي السابق).
البودا إنسان عادي 🔗
كذلك أوضح البودا في سوترا اللوتس أنه شخصيّاً - ليس كما ظنّ البعض من أتباعه - كيان ذو قدرات عقلية وروحية متفوقة خاصة به من دون الآخرين، بل أنه شخص عادي قد اكتشف في حياته حقلاً ثريّاً من قوّة الحكمة ومشاعرالتعاطف (بما يمكّنه من فهم مشاعر الآخرين، ومن التغلّب على أيٍ من الصعوبات وتحويلها إلى معنى وفائدة).
وقد يبدو هذا الفكر من الرقي بالنسبة إلى الإنسان العادي وكأنه حقل حياتي يتمتع بقوى خارقة للعادة، ولكن ليس في الواقع ماهو خارق للطبيعة. فكل الأمور تتبع قانون السببية العامل في ضمن حياة الفرد والمحيط. وكما العالم الفيزيائي مثلاً – يكتشف قانوناً طبيعياً، كذلك البودا قد اكتشف في فكره قانون الحياة الذي يمكنّ كل فرد من الإستمتاع بامكانيات عظيمة للفكر، موجودة كنزاً خفيّاً في حياته، وهذا ما أراد البودا نقله إلى مستمعيه.
الإحساس “بروعة وسحرالوجود” 🔗
لكل كتاب روح - أو نظرة خاصة به - تميّزه عن غيره بأسلوب أو بكيفية نظرته إلى الواقع.
فماهي النظرة التي ينطلق منها سجّل اللوتس حول واقع الحياة؟ إنها النظرة الفطريّة حول إحساس الإنسان بروعة ورونق الكون - أي أن البدء أو المنطلق في سجّل اللوتس هو مشاعر الفرد (أو وجهة نظرالإنسان) حول الكون - وليس وجهة نظر قوة خارجية أو إلهية.
فبالنسبة لفكرالإنسان العادي يبدو وجود الطبيعة الهائل الروعة والتنوع، ونظام حياة الكائنات من ولادة يتبعها الموت - كأحجية سحرية مدهشة التعقيد.
وتجمع كثير من النظرات الفلسفية أن الشعور الديني لدى اللإنسان وليد أمرين: أولاً : الشعور بالإعجاب والإنشداه بالإنسجام العظيم للكون، وثانياً وليد الرهبة والخوف إزاء ظاهرة الموت. وأوّل ماتبدأ به سوترا اللوتس وصفها الشعور الفطري بروعة وجود الكون، أي أنّ المنطلق هو الروعة وليس الروع. .
هذا الشعور بروعة الكون وتعقيد الكائنات الحيّة مصدر مايولّد في النفس الشعور بالتقدير وبالقيمة التى لاتجارى للحياة. وهذا مصدر الشعور بقدسيّة الطبيعة ومايوحي بالإحترام الأعمق للكنه الخفي للوجود وإحساساً بالإعجاب والرغبة في المعرفة، حيث أنّ لكل كائن مهمة ودور وتأثير. ويزداد الشعور بسحر الوجود متعة حين يدرك الإنسان أن لحياته معنىً ووظيفة في ضمن حياة كثير من الناس، وأنه من المفيد - بل ومن الضروري - أن تكون لديه القدرة على تجاوز أي صعوبة أو معاناة، وعلى الكون مصدراً للحبور والقيمة في حياة المحيط.
مصدر فلسفة اللوتس 🔗
ينبع نصّ سوترا اللوتس من فكرالإنارة: فكرالإنسان المدرك أن حياته - على حالها من التغيّر المستمر - تحتوي ضمناً على امكانيات من ثراء كبير تمكّنه من تحويل الواقع ألى وضع الفائدة له ولغيره.
ذلك أن الفرد بحاجة إلى القدرات الضمنيّة لمجابهة المشاق والصعوبات التي تضغط بثقلها على حياته. وكثير من العوائق في حياة الإنسان ناجم عن قوى سلبية ضمنه، وبعضها الآخر يتولّد من تأثير الإحباط وفقدان تشجيع المحيط عموماً. في هذة الظروف يتولّد لدى الإنسان الشعور بالمحدودية والضعف عوضاً عن الثقة أو الأمل في تغيير الظروف.
الرسالة الأساسية لسوترا اللوتس هي أن الفرد أغنى وأقيم بكثير مما يظنّه سطحيّاً عن نفسه (أومما يوحي إليه المجتمع عن هويّته)، وأنه قادر على الإستمتاع بحياة من السعادة والمعنى ضمن واقعه الحالي.
وتبيّن السوترا أن حياة أي فرد - حتى في مراحل تبدو فيها غارقة بالبؤس - إنما تحوي حقل الإمكانيات بما يمكّن من التحوّل إلى الإشراق والنجاح في فعاليات السعادة والمعنى. على أنّ هذة الإمكانية تبدو للإنسان العادي أو السطحي التفكير - مثل الخيال، إذ أنها توحي بلوحة من حياة القيّمة بحيث تبدو للفرد الغارق مرحلياً في واقع الحياة الأليمة - على أنها مجرد حلم. وهذا بالذات ما يجعل نصّ سوترا اللوتس يبدو حرفيّاً وكأنه يصف حلماً لحياة من السعادة والإنارة.
لذلك فالنظرة المناسبة لفهم سوترا اللوتس هي اعتبارها : وصفاً شاعرياً لحلم أو لأمل كل إنسان في الوصول إلى الحقل الأسمى في حياته.
ويتقصّد نص السوترا إنشاء وصف جو شاعري مغرق في أبعاد خيالية كالحلم – ولكنّ ذلك واجهة تخفي معنىً ومغزىً من العمق والثراء والفائدة.
وإذا كان ممكناً تحقيق هذا الحلم في حياة الفرد (أي التمكن من إزالة المعاناة وتحويل الحياة إلى السعادة) – فهذا التحقيق سيبدو إذن وكأنه عمل من أعجوبة كونية ساحرة. ولكن: أليس وجود الفرد بحد ذاته أمرٌ هائل العمق والقيمة ؟ لذلك فليس من المصادفة أن تكون الكلمة الأولى في سوترا اللوتس كلمة Myo " ميوه" - والتي تعني: “أحجية الحياة الرائعة”.
وتعني هذة الكلمة الإفتتاحية أن روعة الوجود وحياة الفرد - إنما أحجية كونية العمق، أعجوبة سحرية الرونق تفوق محدودية الفكر السطحي وضحالته. هذا ما يشعر به في العمق كل إنسان مفكرّ.
كل إنسان يشعر بالفطرة بعظمة وتعقيد الحياة وكأنها لغز يفوق أي تفسير. وهذا ماتبدأ به فلسفة اللوتس في ايراد مفهوم Myo “ميوه” ومفاده هو أن “عظمة الحياة روعة تفوق أي تحليل فكري”.
تتجلّى عظمة الحياة في التعدد الهائل الثراء الذي نلاحظه في النباتات والكائنات الحيّة تعبيراً مباشراًعن عظمة الوجود، وتتجلّى أيضاً في التعقيد الذي يفوق الوصف في وظائفية الأجهزة العضوية داخل جسم الكائن الحي. بمعنى آخر فالكائن الحي يحمل ضمنه القدرة المقدسة للحياة Myo “ميوه”، والتي هي أيضاً موجودة في كل ظواهر الطبيعة وفي كل كائن (بما يناسب وظيفته).
فالشكل الخارجي Ho للكائنات الحية التي تظهر بها في الطبيعة إنما الشكل المناسب لوظيفتها في الوجود. ووظيفتها هي مايحدده كنهها الضمني Myo ميوه (من مشاعر وتفكير).
بمعنى آخر: فإن قدرة الحياة الكونية (التي تدعى في الديانات السماوية بالقدرة الإلهيه) – هذة القدرة المقدسّة موجودة هنا: ضمن كل شيء نراه في هذا الواقع الفيزيائي من كائنات حيّة، وليست مستقلة (أو خارجة) عنه.
بكلمات أخرى، تبيّن فلسفة اللوتس أن كل ماهو حي إنما إعلان عن قدرة الكون تجسّدت في كيان معّين يمكنّه من تنفيذ أو إنجاز وظيفة له في الطبيعة المناسبة لوجوده.
وتشير سوترا اللوتس إلى البشر كجزء مترابط لاينفصل عن الوجود الذي يحوي النباتات والحيوانات، وتشير إلى الناس بكونهم “زهوراً إنسانية”.
الأسلوب الأدبي لنصّ سوترا اللوتس 🔗
سجلّ اللوتس كتاب متوسط الحجم يتكون من عدد من الفصول المتتالية. وفي كل فصل يحوي النص على قسم أولي يسرد أو يصف أحداثاً وقصصاً، يتبعه قسم من أبيات الشعر حول تلك الأحداث. ويلاحظ أن أسلوب التعبير بالشعر واستخدام المجاز والكناية والرموز هو الأسلوب الأساسي في تشكيل النصّ وطريقة عرض المعلومات.
تبدأ السوترا بوصف لإجتماع تم بين البوذا وأتباعه في جبل يسمى ب"قمّة النسر" Eagle Peak في شمالي الهند. وهذا المكان الجبلي المعروف جغرافيّاً عادي المنظر لايختلف عن غيره من الأمكنة العديدة والتي كانت أمكنة تجمع البودا وأتباعه. ولكن منذ بداية سوترا اللوتس، يبدأ النص في تصوير شعري يصف تحولّ مكان الإجتماع والطبيعة المحيطة به إلى أجواء غير معتادة، وذلك بهدف توليد وحيّ من شعور بالغرابة والإنشداه، بما يشكّل جوّاً فكريّاً يشبه جوّ الأحلام.
فكما في جوّ الأحلام، يصف النصّ أن الجبل الذي هو مكان الإجتماع قد بات يهتز برفق، وأن شعاعاً من النور قد انبعث من جبهة البودا. إن اهتزاز الأرض في بدء الإجتماع كناية عن أن البودا بصدد فكر جديد يهزّ الفكر التقليدي للناس، والإشارة إلى بزوغ النور من الجبهة كناية عن قدرة الحكمة على إنارة المكان.
هذا التمهيد يهيّئ القارىء لتوقّع مشاهد تالية تسرد أموراً بعيدة عن الواقع المحدود بالأبعاد الفيزيائية المعروفة، بل هي مشاهد من صور فكريّة تبزغ هكذا في فكر الحاضرين وكأنها قد صدرت إليهم من فكر البودا. وهكذا تصف السوترا الأمور الجارية فيها وكأنها سريان لصور وأحداث لها مغزى مفيد.
يستخدم نصّ السوترا أسلوب المبالغة المقصودة في سرد أبعاد وحجوم الأحداث الجارية فيها – هذة المبالغة تشير إلى القارىْ أن النصّ المعروض يجب أن لايؤخذ بشكل حرفي بل أن يتم ادراكه ضمنيّاً (ليستخلص من سرد الأمور المعروضة مايكمن فبها من المغزى).
ليس هناك في نصّ السوترا أوامر من جهة عليا أو إعلام فوقي للناس عن وصايا (حول ما يجب أن يتصرفو به). فقد كان أسلوب عرض البودا للمبادىء التي أراد نقلها إلى سامعيه تماثل طريقة أم حنون تنقل إلى مدارك طفلها ماهو مفيد بشكل قصص ممتعة واستعارات (تخفي معنىً ضمنياً يصبح مفهوماً برفق) - وليس بشكل أوامر فوقية.
ورسالة أو هدف سجلّ اللوتس هو مساعدة الناس على إدراك إمكانية تغيير حياتهم وتحويلها إلى واقع من الإنارة. ولأجل الكناية عن إمكانية “تحويل الحياة إلى أفضل” - استخدمت السوترا رمزاً أصبح إسماً لها: وهو الإشارة إلى نبات اللوتس المعروف للجميع - والذي يحول مواد البركة الموحلة إلى زهرة رائعة من النقاء والرائحة الجميلة. وفي هذا إشارة ضمنية للإنسان، أن تزدهر حياته قيمةً ورونقاً، كما زهرة اللوتس.
هناك عدّة أساليب لتقديم الصور الفكرية إلى مخيّلة القارىء.
فالأسلوب المباشر مثلاً مناسب لعرض أمور مفهومة عموماً أو للإشارة إلى أفكارٍ جاهزة لاتقتضي التعمق ّفي التوضيح. أما الأسلوب القصصي فهو مناسب لتضمين معنى لصور وأحداث يستخلص منها القارىء الخلفيّة والمغزى العام.
على أن أكثر الأساليب مرونة وحرية في التعبير هو الصياغة الشعرية، أو بالأحرى النثر الشعري، حيث يمكن للخيال الإنطلاق في ساحات فكرية وشعورية دونما تحديدات، في رؤى تحلّق بحرّية في جو يشابه الحلم.
تعتمد سوترا اللوتس على تشكيل جوّ مشبع بخيال ملون، وتستخدم التعبير القصصي والصياغة الشعرية.
فعلى سبيل المثال : يصف أحد الفصول فيها اجتماعاً للبودا واتباعه قي جوّ من الطبيعة الخلابّة في ظلال أشجار مزدانة بالجواهر القيّمة تشّع منها ألوان غزيرة، تغمر من حولها من الناس الذين هم في نشوة يستمعون إلى شدو ألحان تصدرها كائنات ذات جمال خارق، تعزف آلآتٍ موسيقية تصدح منها أنغام سماوية. وضمن هذا الجو الساحر تبزغ من الأرض - مع النباتات والزهور- كيانات بشرية تتدفقّ بأعداد كبيرة، مزدانة المظهر، تنتمي إلى عروق انسانية متعددة الأصول، ثريّة المظهر ومختلفة الألوان والملامح - يجمعها الإشراق في الطلعة، والإتقاد بروحٍ من النبل والرونق. ويبيّن البودا للمجتمعين أن هؤلاء الذين قد ظهرو من الأرض هم اتباع له من الماضي البعيد، قد رافقوه في نشر تعاليم الإنارة خلال حيوات له سابقات منذ عصور لاتحصى.
وفي هذة اللوحة الثرية يبيّن البودا أن مدة حياته ليس لها حصر، وأنه ليس شخصّاً محدداً بولادة واحدة بل أن كلمة “بودا” تعني “حقيقة الحياة الكونية” – والتي هدفها إزالة المعاناة وإيقاد فكر القيمة ومشاعر السعادة.
وكمثال لأسلوب الترميز الهادف إلى الإشارة إلى قيمة حياة الإنسان - تصف السوترا احتفالية لأحداثٍ تجري أمام المجتمعين يظهر فيها من عمق الأرض صرح هائل الأبعاد، يبدو كبرج من كنوز Treasure Tower، باهر المنظر، مرصّع بالذهب والأحجار الكريمة. ويصعد برج الكنوز بسموٍ إلى أعلى ويطفو بحريّة في الهواء دونما اعتماد على المحيط.
ولايمكن فهم هذا المثال من القراءة السطحية أو الحرفية للنصّ، بل يقتضي ذلك بحث عن المقصود والمغزى.
فهذا الصرح المنتصب البازغ من الأرض رمز لإنتصاب الإنسان بكرامة، كما تراه السوترا - ثريّاً بالإمكانيات والتي هي كنوزه الخاصّة بكيانه: جسداً وروحاً.
ومقدرة برج الكنوز على الصعود بحريّة إلى أعلى يعني أنه غير مقيّد بالعقبات الخارجية ، ولاتؤرضّه المشاكل.
أي أن الإنارة تجعل الإنسان واعياً لكونه في الواقع كياناً شخصيّاً متفرّداً كبرج من الكنوز أو الإمكانيات - قادر على أن يطفو بحريّة فوق وضع المشاكل والتقييدات صرحاً منتصباً بكرامة واستقلال.
بهذا الأسلوب من الترميز الشاعري إضافة إلى سرد لأمثلة واستعارات قصصية حول أحداثٍ سلسة ذات مغزى، تمكنت السوترا من تقديم أفكار لمفاهيم عميقة تتخطى الزمان والمكان.
بعض التعاليم المستقاة من سوترا اللوتس 🔗
أهم ماتوحيه سوترا اللوتس هو أن أي فرد كان، مهما كان سجلّه النفسي أو الروحي سيئا، حتّى ولو كان شخصّاً ذو تاريخ من الشرور – فهو على الرغم من ذلك قادر على تغيير كل وضعه الروحي والوصول إلى النقاء النفسي والإنارة مباشرةً. أي أن أفعاله السابقة لن تشكّل له قيداً يمنعه من الحريّة من الماضي.
وهذا فارق أساسي بين سوترا اللوتس وكل ماسبقها من تعاليم بوذية (والتي تتطلب - كشرط في التحرر النفسي - تنقية الفرد لسجلّه الماضي أوالكارما الناجمة عن أحداثٍ له سابقات) - بينما تتجاوز اللوتس كل العوائق وتمكنّ الفرد العادي، هو أو هي، من الحرية من الماضي ومن القيود.
يمكن اعتبار السوترا سجلّاً لعدد من المواضيع عرَضها كتابها في شكل لوحات شعرية من المعلومات والشروحات، ولكن التطرّق إلى جميع تلك المواضيع يتطلب شرحاً لخلفيات كثيرة. لذلك سيقتصر التقديم التالي على ذكر عدد محدود من المفاهيم الأساسية، بدءاً من عرض لمفهوم “روح الكون” أو “النظام الكوني” (الذي عبر قدرته تحصل الأحداث، أي مايمكن تسميته ب"قانون الحياة"). وكذلك نظرة فلسفة اللوتس إلى امتداد الزمن (لابدء له ولانهاية).
] ولربما يجد القارىء كثيراً من التكرار في بعض الكلمات في سياق شرح هذة المفاهيم، ولكن من الصعب جدّاً تفادي ذلك التكرار في السرد – بل إنه قد يفيد في درء لأي غموض محتمل.
كذلك فإن قراءة هذا الكتاب ممكنة عموماً بدءاً من أي عنوان في صفحاته – دون ضرورة لمتابعة القراءة بتتالٍ منذ البداية أو بشكلٍ متسلسل. وهذا الأسلوب في العرض يستدعي بالضرورة تكراراً في ذكر بعض المفاهيم[.
عنوان سوترا اللوتس 🔗
يعتبرعنوان السوترا: “ميو- هو- رن - كة – كيو” Myo Ho Ren Ge Kyo تكثيفاً لكل محتويات السوترا. وتشيرعبارة “ميو- هو- رن - كة – كيو” في أبسط معنى (دون ترجمة حرفية) إلى: “روعة جبروت الوجود : قانون الحياة سبباً يستدعي النتيجة” – وفي هذا إجلال لروعة القدرة الكونيّة (التي تحرّك كل ماهو موجود بقانون مطلق يربط الأحداث بتبعاتها).
لأجل إدراك ما هو موجود في الواقع فنحن نسخدم الحواس الخمس. ولكن الحواس تدّل على الجانب الفيزيائي أو صفات المظهر الخارجي فقط (بما يُرمز له في عنوان السوترا بكلمة Ho، وتعني “البيان الجلي” أو “الشكل الظاهر”).
أما ماهو أعمق من المظهر الفيزيائي فهو الكنه الذي لايرى (والذي هو جوهر الفكر والمشاعر). هذا الكنه الضمني (أو الخفي عن الرؤيا) للحياة يدعى ب “ميوه” Myo أو “روح الكون”. وبذلك فإن أيَ ماهو موجود (إن كان كائناً حياً، أو نباتاً اوحتى ظاهرة طبيعية) هو تكامل الجانبين: الفيزيائي والروحي معاً دون انفصال : Myoho. يبدأ عنوان السوترا إذن بالإشارة إلى مبدأ “وحدة المادّة والروح” أو تكامل الجسد Ho والفكر الروحي Myo دون فصل بينهما، ذلك لأن التصرفات المرئية في الواقع الفيزيائي تحكمها وتولّدها الدوافع الضمنية، دونما فصل بينهما.
ولكن التصرفات لها تبعات فيزيائية ونفسيّة. هناك تصرفات (أو مسببات) تؤدي إلى المشاكل والألم - وغيرها من مسببات نتيجتها الإنسجام والسعادة. فما هي القدرة التي تحدد التبعات؟ هناك قانون للحياة يعمل تلقائياً بالفطرة ويحدد مسبقاً نتيجة ما يقوم به الفرد من تصرفات. ويرمز لهذا القانون بكلمة Renge : وحدة السبب بالنتيجة.
هل لوجود الحياة في الكون هدف أو إرادة؟ 🔗
إذا كان للحياة عموماً اتجاه في الوجود، فمن الممكن ملاحظة ذلك مباشرة في واقع مانراه في مجمل تصرفات الكائنات الحية.
ومن الجليّ أن كل كائن حي يهدف بإصرار إلى الإستمرارية في الوجود: عبر النفور مما يستدعي الألم أو التهديد وأيضاً عبر الإنجذاب إلى مايسبب الرضى والمتعة. ومجرد وجود الإحساسات في الكائنات الحيّة، وماتؤدي إليه من ميكانيكية صدور “مشاعر الألم” و"مشاعر السعادة" – دليل على أن الحياة لها اتجاه محدد (أو تفضّيل) في الإنطباعات الداخلية. فليس كل شيء سواء، بل هناك أحكام داخلية صارمة تصدر تلقائياً حول نوعية التصرفات والأفعال.
ولايمكن للحياة أصلاً أن تستمر ضمن واقع من التحديات الكثيرة بدون وجود مرجع أو قانون ضمني يوحي للكائن الحي بمعنى ما يحصل من أحداث. وهذا المرجع الداخلي هو مصدر إعطاء الحكم حول أن دافعاً ما (أو حدثاً معيناً) سيؤدي إلى نتيجة ايجابية (كالإنسجام والطمأنينة والنمو) وأن دافعاً مغايراً سيؤدي إلى نتائج سلبية (كالتشنج والمعاناة والإساءة).
ليس هناك أندر (أو أهم) من الإدراك أن ما يقرر القيمة المستقبلية للأحداث (وتبعات مانقوم به من أفعال) – إنما هو قانون فطري موجود في فكرنا منذ الولادة. هذا القانون يعمل كميكانيكية نفسيّة تلقائية وظيفتها توليد المشاعر. أي أنه تجسيّد لإرادة الوجود. ويمكن ملاحظة قانون المشاعر مباشرة في فعاليات كل الكائنات الحية فيما تنجذب إليه وما تنفر منه.
هذة القدرة هي قانون الحياة الضمني: قانون ارتباط أو"تلازم السبب والنتيجة".
رمز قانون الحياة 🔗
لأجل الإشارة الى ارتباط السبب بالنتيجة تستخدم زهرة اللوتس رمزاً – إذ أنها تفرز من مركزها البذور (التي هي السبب في وجود الزهرة) في نفس الوقت الذي تبلغ بها كيانها كزهرة كاملة (والتي هي النتيجة النهائية لنمو البذور).
لذلك يشار إلى كيان زهرة اللوتس Renge كتعبيرعن مبدأ “ترابط السبب والنتيجة”، وهو المبدأ الطبيعي الذي يحكم ديناميكية أفعالنا وما تؤديّ إليه من تبعات ايجابية كانت أو سلبية.
بذلك، يمكن وصف الحقيقة الديناميكية للحياة ب MyohoRenge “ميوهورنكة”. فكل كيان في الوجود إنما تجسيد فيزيائي ho لقدرة الحياة Myo- ومسار أحداث حياة أي كائن Myoho إنما تتالي لأسباب ونتائج، أي بيان لعمل القدرة الرابطة Renge (التي تحدد مسبقاً لكل فعل نتيجته). ويمكن ملاحظة هذا الترابط التلقائي في ديناميكية ظواهرالطبيعة (التي تدرسها العلوم الفيزيائية، من فعل ورد الفعل وفي حركة الظواهر) وكذلك في مجال المشاعر والتصرفات النفسيّة بين الناس (التي تدرسها العلوم الإجتماعية).
هذا الواقع الشامل لديناميكية الظواهر - مادّية كانت أوالنفسيّة - في كل ظروف الحياة يشار إليه بكلمة Kyo أو: “القانون الشامل”. فعلى الرغم من التعقيد الهائل للحياة وديناميكية الوجود الدائم الحركة - إلاّ أن الواقع ليس عشوائياً بل هو تعبيرعن النظام والإتساق الشامل (أو القانون الطبيعي: Kyo).
بذلك فإن حقيقة القانون الذي تسري عبره حياة كل كائنات الطبيعة وظواهرها - والذي يعمل بتلقائية في ضمن حياة الإنسان - هو ما يشير إليه عنوان سوترا اللوتس بالذات: “ميوهو- رنكة - كيو” .MyohoRengeKyo
الفائدة في إدراك قانون الحياة 🔗
يعود التقدّم الذي نحياه حالياً في مجال الصناعة والعلوم إلى معرفتنا لكيفية عمل الظواهر الطبيعية وقوانينها. فإدراكنا لكيفية عمل الأشياء ولميكانيكية قوانين الطبيعة يمكّننا من استخدامها لأجل الفائدة في مجالات تطبيقها.
ونفس الأمر صالح في مجال وعي المبادىء التي تحدد سلوك الإنسان: فحين يدرك الفرد أن حياته تعمل تلقائياً حسب قانون الإرتباط الحتمي للسبب والنتيجة (“ميوهو – رنكة – كيو”) فإن وعيه أو فكره سوف يبيّن له ضمنياً ماهو التصرف الأفضل تجاه مايجابهه. فالإنسجام مع قانون الكون “ميوهو رنكة كيو” سيؤدي إلى إدراك ضمني يبزغ تلقائياً حول ما يؤدي إلى الفائدة والقيّمة، وكيف يمكن أيضاً تفادي التصرفات ذات العواقب التي تؤدّي إلى المعاناة.
ليس هناك أكثر قيمة وفائدة من التوصّل إلى المقدرة الشخصية على التحكم بمسار الحياة بما يولّد الطمأنينة والسعادة والحكمة. فاستنارة الفرد إلى المبدأ الذي عبره تحصل الأحداث تمكّنه من ايجاد الحل الأفضل لأي وضع أو مشكل - بما يضمن العدل في التصرف المريح وبما يزيل التشنجّ أوالإساءآت. كان ذلك ما اكتشفه البودا ضمن حياته واستنار إليه بجهوده عبر السنين بنفسه (وليس إعلاماً من سلطة خارجية). وحين يشعر الفرد ضمناً بما يجعل حياته أو حياتها - في انسجام وفائدة له ولغيره – فإن هذا الوضع من الإدراك بالذات هو وضع الإنارة الفكرية والروحية. فالمعنى الوحيد للتوصّل إلى الإنارة يكمن في فائدتها العملية في الواقع، وذلك في برهان فعلي Actual Proof لعلاقات ناجحة قيّمة، وفي إمكانية إيجاد الحلول لتحدّيات الحياة اليومية. إنه لايمكن الوصول إلى الإنارة في التوحدّ والإنعزال، بل في تحويل الصعوبات إلى مادّة للنمو في حياة اجتماعية ذات فائدة للكثيرين.
الحريّة من الماضي 🔗
حالما يقوم الفرد بفعلٍ ما، فإن دوافع الفعل ونتيجته المستقبلية تتسجّل تلقائياً في حقل “ذاكرة الأحداث السابقات” في العقل الباطن. أي أن الفرد يحمل ضمناً تاريخه الشخصي، حتى ولو لم يتذكر في الوعي الحاضر تفاصيل الماضي من أحداث (والتي هي قد سجلّت تلقائياً في حقل اللاوعي). فبالإضافة إلى سجل الذاكرة الواعية، هناك سجل فكري يخزن في الذاكرة البعيدة الأمد (التي يشار إليها بال Karma “كارما”) - كل المعلومات حول الأحداث الجارية من دوافع وأقوال وأفعال.
وبما أن كل فعل يتسبب في انطباع في الميط وتأثير لاينفصل عنه، فإن سجل الكارما يحوي بالضرورة النتائج المتوقعّة للأفعال المسجلّة.
هناك دوماً فترة زمنية بين السبب والنتيجة، (أو الفعل وردّ الفعل)، وضمن هذة الفترة التي لم تظهر فيها النتيجة اللاحقة بعد – تظل تلك النتيجة المسجلة ضمنياً إمكانية كامنة potential ضمن العقل الباطن للفرد ولايمكن لشيء أن يمحيها. أي أن النتائج اللاحقة لفعاليات الماضي لابد من حدوثها في المستقبل (حين تتوفر الظروف).
على أن هذا يعني أيضاً أنه يمكن القيام بإصلاح أو تغيير في تصرف الفرد إذا حصل ذلك ضمن فترة الفارق الزمني بين السبب الماضي والنتيجة اللاحقة.
وهذة الحقيقة تعني أن مفهوم الكارما يتيح إمكانية التحرر من الماضي، لأن مصير الفرد ليس محدداً فقط بما سبق من أحداث، بل يتبع الحاضر أيضاً (ففي الزمن الحاضر يمكن إجراء فعالية جديدة تضاف إلى سجل الكارما بما يحرضّ فيه تغييراً نحو نوعية جديدة).
وحين يكون الفرد في إدراك لقانون الحياة “ميوهو – رنكة – كيو” فإن تصرّفه في الواقع يكون كذلك في عقلانية وانسجام وبما يعبّر تلقائياً عن راحة القلب والفكر. بينما في حال التصرّف المعاكس لإرادة قانون الحياة (في العقلانية والإتزان) فإن الفرد يجذب أحداث المعاناة. وليس هذا عقاباً من جهة خارجية، بل - نتيجة تلقائية لجهله السابق في قيامه بفعاليات ماضية أسبابها كانت سلبية (كالجشع أو التكبّر الخ). ذلك أن الفعاليات الماضية - بأسبابها ونتائجها - مسجّلة ضمناً في خزانات المعلومات الكارمية.
فمثلاً في حادث ما، يمكن أن يقع شخص ويصاب بكسور – ولكن لايمكن لنا اعتبار هذا الحادث “عقاباً” له من قانون الجاذبية بل هو “نتيجة” لأسباب (منها لربما عدم التأنّي أو قلّة الحذر الذي كان ليُمكنّ من تفادي مثل هذا الحادث). ومهما ثار الجدل حول هذة الأمور فإن الثابت الذي لايمكن إنكاره هو أن السبب يستدعي النتيجة التي تناسبه، مهما طالت مدة الزمن.
يعمل سجل التاريخ الشخصي للإنسان (الكارما) كالمغناطيس الروحي الذي يجذب من المحيط ردود أفعالٍ تناسبه.
هناك أحداث تحصل مع الفرد في وضع ما دونما توقّع لها. فالواقع غزير بالأمور وديناميكي التجدد بحيث يمكن حصول أمور جديدة، منها ماهو مناسب أوما هو غير ذلك. ولكن مرونة الحياة وديناميكيتها في التجدد لاتعني أن الأمور تحصل جزافاً أو بعشوائية.
فعلى الرغم من عدم مقدرتنا على المعرفة الدقيقة لتفسير الأسباب والنتائج لكثير من الأمور، فإنه مما لاشك فيه أن الطبيعة موجودة فقط بفضل مبادىء راسخة وقوانين – والتي هي في تعقيد كبير، بما يجعل تحليل مايحصل من الأمور الحياتية معقداً وحتى صعباً الإلمام به.
وكما هو معروف، فإن بعض ما يحصل من أحداث يوصف بكونه مجرد “حظ” (جيداً كان أو سيئاً)، وذلك ناجم عن عدم معرفة الأسباب التي أدت إلى “الحظ” المذكور. على أنّ أحداث الواقع لاتحصل بالعشوائية - بل إن هناك أسباب عميقة لابدّ وأن تراكمت بما جذبت حصول مانعتبره “حظّاً” – وهذة الأسباب السابقة لايذكرها العقل الواعي (إذ تعود إلى فترة بعيدة جداً).
وكثيراً ما يقول الفرد في حال حصول أمر سيىء: “لماذا؟” – أي “ماهو السبب؟” - ماهو السبب الماضي البعيد الذي جذب حصول الحادث للفرد (بما هو غير متوقعّ).
هناك إذن العديد من الناس الذين يجذبون أحداثاً مواتية لهم ومفيدة، وبما نسميه عادة بالحظ الجيّد. ولكن لابد من وجود أسباب بعيدة ذات جودة واستحقاق قد تراكمت بما جذب حصول الأحداث الإيجابية.
فليس هناك في الكون تفضيل أو إعطاء ميزّات لهذا أو ذاك أو تلك عبثاً أو دون جدارة، بل إن مسار الأمور لاتحيّز فيه.
ولكن ذاكرة الفرد الواعية محدودة بما هو قريب نسبياً، بل ويمكن أن تعتريها المغالطة وتحيّز الفكر. مقابل ذلك، ليس لذاكرة الكارما من حدود زمنية وليس فيها مغالطة، بل هي سجل محايد لواقع الأحداث. وبما أن علاقة السبب بالنتيجة تتخطى الزمن، لذلك فإن موت الفرد لايمحي سجل الكارما الذي يحوي كنه فعاليات الشخص الراحل (ومجمل تاريخ دوافعه وميوله المشكلّة سابقاً).
هناك طبعاً ضرورة للجسد الفيزيائي (والوعي) أن يتحلل ويزول لدى الموت، ولكن ليس هناك من ضرورة تقتضي لحقل العقل الباطن أن يزول (فهو غير مادّي في طبيعته).
ويمكن تشبيه حقل الكارما بالقدرة النفسيّة التي شكّلها الفرد بدوافعه الخاصّة، وككل قدرة أو طاقة، لايمكن لها أن تفنى أو تزول، بل يمكن لها أن تتحوّل من وضع الفعالية إلى وضع الكمون.
وفي حقل الموت يظلّ سجل القدرة الكارمية للراحل محفوظاً في الكون مجمدّاً عن أي فعالية (لعدم وجود جسدّ يحرّكه).
وتظل الطاقة كامنة للكارما في حال الكمون – ووضع الكمون يعني الإمكانية للإنجذاب إلى ولادة جديدة، حين تتوفّر لطاقة الكارما ظروف تنجذب إليها (لدى العملية الجنسيّة والإلقاح من والدين جديدين مناسبين).
على أنّ إستمرارية الكارما من حياة ماضية إلى حياة تالية Rebirth ليست تكراراً “لروح الفرد الشخصيّة” – بل هي استمرارية لميول ودوافع من صنع الفرد ومسؤوليته. وهذا مختلف تماماً عن مفهوم تناسخ الروح، والذي يقتضي تكراراً للشخص ذاته، الأمر الغير ممكن أساساً (إذ أن كيان الشخص متعلقّ بالحامض النووي للوالدين، والذين لا يمكن أن يتكررا).
أمّا استمرارية الدوافع المشكلّة في حياة سابقة فيمكن أن تستمر في ولادة لها جديدة، وهذا ما يلاحظ في تعدد واختلاف الميول لدى الأطفال حتى في نفس العائلة، كلٌ قد أتى بتاريخ له سابق - بادئاً رحلة جديدة.
مفهوم “أبدية الزمن” في سوترا اللوتس 🔗
كان البودا معروفاً لمن هو حوله بأنه قد ولد ابناً لملك عشيرة “الساكيا”، وأنه قد اختار لنفسه فيما بعد التخلي عن أمور المملكة لأجل ممارسة التأمل، وذلك بهدف الوصول إلى حل لمعضلة المعاناة في حياة الإنسان. وقد ظنّ أتباع البودا أنه قد توصّل إلى الإستنارة إلى “قانون الحياة” بعد عدّة سنين من الممارسات الروحية، ثمّ بدأ بعد ذلك بنشر تعاليمه على مراحل.
ولكن هذة الصورة التقليدية قد تغيّرت في سرد سوترا اللوتس. فقد فوجىء أتباعه بما أورده في الفترة الأخيرة من حياته في تبيانه في سوترا اللوتس أن حياته الحالية آنذاك ليست المرة الأولى التي يصّل بها إلى حقل الإنارة بل إنها استمرارية لإنارته في حيوات سابقات – وأن حياته (أو حياة الإنارة) في الحقيقة تمتد عبر الزمن السحيق، بل إنه ليس لها بدء ولن يكون لها نهاية لأنها من طبيعة حياة الكون.
وهذا يعني أنّ وضع الإنارة الفكرية حقل موجود في فكر الكون، دونما حدّ زمني. إنه حقل طبيعي يمكن لكل فرد أن يدركه، فهو ليس خاصيّة لشخص معيّن.
قدمّ البودا في سوترا اللوتس إذن مفاهيماً جديدة عما سبق له من تعاليم. فقد بيّن للمرة الأولى أن حياته عبارة عن تتال لاينتهي في الزمن من ولادة ثم موت ثم ولادة من جديد.
بمعنى آخر: المدى الزمني لحياة الإنارة ليس له بداية وليس له نهاية.
ولأجل شرح مفهوم أبدية الزمن (أو لانهائية الكون) - تورد السوترا مثالاً عن تقدير عمر الكون بإيراد عدد من السنين يفوق مقداره عدد ذرات الغبار التي تنجم عن طحن كتل كل الكواكب في كل مجرات الكون (الذي ليس له حدود).
إنه لايمكن حصر عدد ذرات الغبار الناجمة عن طحن كوكب الأرض مثلاً، وفي نفس المنظور فإن تقدير عمر الكون - كما ورد في سوترا اللوتس - يفوق بما ليس له حصر من عدد ذرات الغبار الناجمة عن طحن كواكب كل المجرات في الكون. وقد أوردت السوترا هذا التصوّر لأجل إعطاء الفكر تصوّراً لعدد هائل المقدار من السنين بما يمكّن أن يفيد لتقريب فكرة الأبدية أو لانهائية الزمن.
وتشرح السوترا أن حياة كل إنسان هي أيضاً جزء من حياة الكون الأبدي، تكرارلانهائي من سلسلة الولادة والموت ثمّ الولادة من جديد - كياناً متجدداً في شخصية جديدة في كل حياة.
وتكراراً لما ذكر سابقاً - فالذي ينتقل من حياة إلى حياة تالية هو سجل “الكارما” والتي هي الاتجاهات والدوافع التي شكّلت سابقاً في الحياة الماضية (والتي هي من مسؤلية الفرد ونتيجة عمله الخاص).
وحسب هذا المنظور الذي يرى الحياة والموت كموجة متكررة، ينجم إنه من الحكمة أن يكون الفرد جادّاً في الوعي لبذل الجهد في الحياة الحالية لأجل تشكيل اتجاهات مفيدة (ودوافع قيّمة في التصرفات) بحيث أن سجل هذة الكارما الإيجابية تلازم الفرد المنار في كل حياة في المستقبل.
الطبيعة الفطرية للإنارة 🔗
من الصعب جداً الإعتقاد أن حياة الفرد بالذات، بما فيها من ضغوطات و شعور بالصغر والمحدودية - تحوي ضمناً حقلا ًمن الحكمة وثراء الفكر والقدرة (بما يمكّنه من التغلّب على المصاعب وتحويل مجرى الحياة إلى السعادة والقيمة).
وتتنبىء سوترا اللوتس بأن صعوبة مفاهيمها ستؤدي بالكثيرين إلى رد فعل تجاهها من رفض وعدم التصديق. ولكن هؤلاء بالذات من هم بحاجة إلى الدواء الشافي الذي تقدمّه تعاليمها، وأنهم يوماً ما سيجدون صدق ما تقدمه من مفاهيم.
وطالما أن هناك من توصّل إلى إدراك ثراء وفائدة حقل الإنارة، إذن فعدم تصديق وجود هذا الحقل ضمن الفرد إنما ناجم عن شعور ذلك الفرد بعدم الإستحقاق أن تكون حياته أو حياتها بهذة القيمة والمعنى. ومايتخيله الفرد عن نفسه عموماً ليس إلاّ حصيلة انطباعات دونيّة من أراء المجتمع – والذي هو أصلاً في تناقض وفي كثير من المعاناة، كما هو معروف.
ما المانع أن يكون للفكر حقّاً إمكانيات أكبر بكثير مما يتخيّله المجتمع أو الفرد عن نفسه؟
وحتى ولو أن الفرد يشكّ في هذة الامكانية العظيمة للإنارة الضمنية، فإن حقل الإنارة موجود بشكل كامن لايزول لأنه من مكوّنات الطيف النفسي لحياة الفرد، يمكن تجسيده في الواقع ضمن شروط: أولّها الرغبة في اكتشاف قدراته الفكرية والروحية (بهدف إزالة المعاناة وتحقيق جدارته في حياة من القيمة والمعنى).
يدعى هذا الحقل الكامن ب"الطبيعة الفطرية للإنارة" - buddha-nature أو enlightened-nature - موجود ضمنياً في أعمق ساحات العقل الباطن للفرد، وفيه تكمن حكمة تجارب كل علاقات الوجود من أسباب ونتائج، وأسمى المشاعر الإنسانية الناجمة عن الإنسجام التام مع حياة الكون بكل مافيه من ثراء.
فكما أن الفرد يحوي - منذ الولادة - على طيف المشاعر النفسية بشكل فطري، كذلك فإن حقل الإنارة (والذي هو السعادة في اتساق الفرد مع حياة الكون) موجود بالفطرة (كإمكانية) في هذا الطيف من الطبيعة الإنسانية.
كيف هو من المكن أن يحوي الإنسان حقلاً من ثراء الإنارة دون أن يدرك وجوده؟ هناك مثال يقرّب من فهم هذة الفكرة الغيرمعتادة (والتي تقترح بأنّ الإنسان يحوي ضمناً حقلاً فكرياً سامياً ولو أنه يجهل وجوده):
فعبر آلآف السنين، كان جميع الناس يحملون في خلايا أجسامهم المورثات، وهي البرامج الفيزيولوجية التي تؤثّر على العوامل الجسدية والنفسية - دون أن يعلم أحد عن ذلك. ودام هذا الحال حتى اكتشاف الحمض النووي وسلسلة المورثات ( DNA ) في منتصف القرن العشرين. كما يبيّن هذا المثال، فإنه منذ بدء الإنسانية، كان كل فرد حاملاً ضمن جسمه في خلاياه برامجاً فيزيولوجية حول مقدراته الجسدية والنفسية واحتمالات مقاومته للأمراض وماشابه – ولكن أحداً لم يكن يعلم عن وجود هذا الكود الوراثي عبر ألاف الأجيال.
كذلك يحمل الإنسان حقل الإنارة في فكره الأعمق، ولو لم يعلم عن وجوده.
إذا حصل أن أحداً قد استطاع بعد جهد كبير اكتشاف حقل الإنارة ضمن فكره الشخصي، فإن أول ما يخطر في فكره هو كيف يمكن له توعية الناس عن وجود هذا الثراء العظيم في حياتهم أيضاً - إذ هم عن ذلك في جهل ومعاناة.
وهذا بالذات ما فعله البودا بعد اكتشافه لحقل الإنارة في حياته، حين بادر في توعية من هم حوله. وفي الواقع، هذا ما يفعله أي عالم قد اكتشف قانوناً طبيعيّاً غير معروفٍ قبلاً، فهو يبادر في نشر المعلومات عنه وتوعية الناس إلى وجوده.
الحواجز والموانع النفسية 🔗
هناك أسباب تمنع حقل الإنارة الضمني من الإشعاع إلى وعي الفرد (مما يعيقه عن الإستمتاع بفوائده في حياته اليومية). والعائق هو جملة من القوى النفسية السلبيّة التي تنبع من الأنانية، أو من التكبّر والعجرفة في التصرّف، وكذلك الإعتقاد بفكر التفرقة والتمييز بين الناس، أو الإعتماد على الأمور المادية فقط كالطمع أو الرغبة في التسلط، كذلك المحدودية وعدم المرونة في التفكير، الخ.
هذة الإتجاهات السلبية الهدّامة تشكل سداً ضمنيّاً مانعاً في حياة الفرد تجاه الاستفادة من حقل العقلانية والنضج، والذي هو أعلى مستويات الفكر والشعور الإنساني.
ولكنّ هناك طريقة تمكن من اختراق وتبديد الموانع السلبية. لابد أولا من توليد الرغبة الحاسمة والإصرار على تحريض الوعي باتجاه الإستنارة. هذة الرغبة الحاسمة تتجلّى في استخدام الإنشاد طريقاً مباشراً لاستدعاء حقل الإنارة.
فعوضاً عن التأمّل الصامت meditation والذي كان اسلوب التقاليد القديمة، تقترح فلسفة اللوتس استخدام الفرد لصوته بالذات عبر الإنشاد chantingكما لو أنه نداء إلى الكون الداخلي فيه للإتقاد والإشراق.
والإنشاد طريق من الممارسات الروحية المعروفة منذ القدم، فكلمة “هللويا” الآرامية الأصل تعني استخدام الصوت في التهليل أو الإنشاد (هللوّ ليّ)
التشبيه القصصي في سوترا اللوتس 🔗
كما تقوم أم حنون بتوعية طفلها بواسطة نقل صور قصصية الى مسامعه بما يناسب مقدرات الطفل، تورد سوترا اللوتس صوراً قصصيّة ذات مغزى يتشربه السامع بلدونه دون محدودية أو ضغط.
موعظة “الجوهرة ضمن الرداء” 🔗
في تشبيه قصصي حول موضوع إمكانية وجود عقل الحكمة والإنارة في حياة الفرد، لجأت سوترا اللوتس إلى تشبيه الإنارة بجوهرة ثمينة يحملها الفرد دون أن يدري أنه يمتلكها (حتى ينبهّه أحدهم إلى وجودها معه).
ويورد نصّ السوترا بهذا الصدد قصة رمزية، حول شخص فقير قد قرر تغيّير ظروفه السيئة بالسفر بعيداً بحثاً عن الثروة.
وقبل مغادرته المكان، أراد ذلك الفقير وداع صديق قديم له ذو مركز اجتماعي معروف. كان صديقه ذاك قلبياً في علاقاته، وراغباً في تشجيع الفقير قبل هجرته، فقام بدعوته إلى عشاء خاص قبل بدء السفر في اليوم التالي.
وكهدية له، أمر ذلك الصديق المقتدر خدمه بأن تحاك جوهرة ثمينة سرّاً في رداء أراد إهداؤه إلى صديقه الفقير بعد انتهاء الدعوة في اليوم التالي.
ولكن- لسبب ما - اضطر ذلك الصديق إلى الذهاب مبكراً في اليوم التالي لأمر تطلّب حضوره دون أن يتمكن من اعطاء الهدية بنفسه.
وبذلك قام الخدم في مكان الإحتفال بتسليم الفقير ذاك الرداء، الذي أعطي إليه كهدية من صديقه الذي لم يكن موجوداً. وتمّ ذلك دون أن يخبره أحد أن فيه جوهرة بالغة الثمن والقيمة.
ثم مضت سنوات طوال لاقى فيها الفقير المشقات والمعاناة دون أن يتمكن من تحسين حياته حتى شارف الموت.
وشاءت الأقدار أن يكون الصديق المقتدر في جولة في المنطقة التي كان الفقير فيها يحتضر تحت شجرة، فأسرع ليكون بقربه في لحظاته الأخيرة وهو يسأله لماذا لم يستخدم الجوهرة التي أمر بتخبأتها له ضمن الرداء (والذي كان الفقير لايزال يلبسه).
ولكن الفقير لم يعلم سابقاً عن وجود تلك الجوهرة المحاكة ضمن ردائه، والتي ظلّت معه ضمن ثوبه طوال تلك السنوات، دون استخدام لقيمتها.
ولفظ الفقير أنفاسه الأخيرة في وضع البؤس والأسى إذ كان من الممكن أن يكون غنياً - ولكنه كان جاهلاً لإمكانية الثراء الذي كان يحمله طوال تلك المدة التي كان يلبس فيها الرداء (والذي هو كناية عن جسده) حيث فيه الجوهرة (وهي الكناية عن حقل الإنارة).
التصوير الرمزي للمساواه بين كل الناس 🔗
تعتبر سوترا اللوتس أول سجل في التاريخ يلغي التمييز بين الناس ويزيل التفرقة والتحديدات الإجتماعية التي تعيق الإعتراف بحق كل فرد في حياة السعادة والأمن.
كان هذا الإعلان بالمساواة ثورياً في ظروف مجتمع قائم على التفرقة الطبقية والجنسية أوعلى إيلاء الإعتبار للمركز الإجتماعي والمادّي، وكانت مستويات التمييّز تشمل التفضيل بين الناس على أساس المظهر الشكلي أو العمر، وكذلك التمييزعلى أساس الأصل العنصري أو القبلي.
وبالطبع، مما لاشكّ فيه، أن هناك دوماً خلافات بين الناس من كثير من النواحي ومنها مثلاً فروقات تعليمية أو وظائفية في المجتمع، ولكن هذة الفروقات في نظر فلسفة اللوتس ليست عائقاً تجاه إمكانية كل فرد الوصول إلى الإنارة والسعادة دون أي تمييّز.
كيف كان من الممكن تقريب صورة إزالة التفرقة الإجتماعية إلى العقول المتحجّرة آنذاك؟
إن أي إعلان مباشر للناس حول ذلك كان ليكون فجائيّاً ومرفوضاً ضمنياً أو غير ذو فعالية.
لذلك لجأت السوترا إلى تشكيل صورة من قصّة فكرية غزيرة الخيال، ركزّت على تشكيل صورة لكائن رمزي يجمع كل صفات التفرقة والموانع الإجتماعية - ولكنّ كل تلك الصفات والتحديدات فقدت قدرتها على التأثير وانهزمت دون أن تكون عائقاً تجاه الوصول إلى الإنارة - كما يلي من سرد:
القصة الرمزية “لإبنة ملك التنين” 🔗
تستخدم القصّة المجازية “لإبنة ملك التنيّن” كائناً يجسّد في نظر الناس أسوأ المستويات في كل المجالات، حسب رأي المجتمع.
فحين كان البودا جالساً يتحلقه أتباعه من الرجال، أتت إلى الإجتماع فتاة صغيرة غريبة المظهر تريد تقديم هدية إلى البودا – وهي جوهرة تمتلكها (والجوهرة كناية عن إنارتها).
لم يأخذ الرجال المجتمعون ذلك محمل الجّد، فهي دونهم عمراً مما دعاهم إلى الظن الخاطىء أنها أقل منهم فكراً أوأنهم أكثر منها حكمة.
ولكن أكبر عقبة في ظنهم تجاه إنارتها كانت في كونها أنثى. فالنساء في ذلك المجتمع لم يعترف لهنّ بإمكانية الوصول إلى الإنارة وكانت أوضاعهنّ تحت السيطرة والتحديدات العديدة.
إضافة إلى ذلك كله، كان مظهر تلك الفتاة التي اتت لزيارة البودا غير محبب للناظرين، بل منفّراً، لأنها من أصل نصفه إنساني ونصفه حيواني – إذ كان أبوها “ملكا من كائن التنين”. أي أن مظهرها كان دون جمال أو قبول.
لذلك لم يكن من المعقول في رأي البوديساتفا الرجال من المجتمعين أن تكون الفتاة قادرة أصلاً على حمل جوهرة الإنارة. ولكن، لدهشة الجميع، أعلن البودا قبوله بجوهرة الإنارة التي قدّمتها تلك الفتاة له معلناً للجميع أنها بودا - أي أنها كيان أنثوي من الإنارة - دون أي تمييز.
كان ذلك صادماً للتفكير التقليدي للمجتمع وثورياً في مغزاه.
فقد كان من المعتقد (في التعاليم السابقة لسوترا اللوتس) أن مراحل ممارسة البوذية للوصول إلى الإنارة إنما يقتضي زمناً طويلاً جداً يمتد عبر كثير من الحيوات المتتاليات. ولكن فلسفة اللوتس تتجاوز فكر العائق الزمني المفترض وتمكّن أي فرد - مهما كان محط تمييز من رأي المجتمع – التمتعّ بحياة الإنارة مباشرة ودون تأجيل إلى حيوات متتاليات من الممارسات لأجل الوصول إلى الإنارة.
في سياق هذة القصّة الرمزية، كان وصول “ابنة ملك التنين” إلى وضع الإنارة أمراً مدهشاً جدّاً لأتباع البودا لأن المغزى في وصول كائن أنثوي في عمر صغير إلى الإنارة يعني أن الجنس الأنثوي مساوٍ تماماً للجنس الذكري في إمكانية الوصول إلى حقل الحكمة الأعلى.
وبالإضافة إلى هذا المغزى في تجاوز الفروقات الجنسية، فقد أزالت السوترا في هذة الموعظة الرمزية الاعتبارات الاجتماعية لشكل ومظهر الفرد الخارجي - إن كان جميلاً أوغير جميل - أو حتى أصله العائلي، من التأثير على قيمته وإمكانية إنارته.
كان لهذة الإستعارة المجازية في إنارة “ابنة ملك التنين” التي وردت في نصّ سوترا اللوتس - أكبر انطباع في تاريخ البوذية كله وبما جعل لسوترا اللوتس مركزاً خاصاً.
وتنتهي قصّة “ابنة ملك التنين” في رمزيتها في إزالة كل مستويات التمييز في المجتمع لتبّين أيضاً أن الذكر في هذة الحياة الحالية كلن من المكن كونه أنثى سابقاً:
إذ تستمر القصة الرمزية لتصف أمراً أدهش الحاضرين في مقدرة فتاة الإنارة على عبور المسافات بين الأماكن في الكون - أو ما يسمىّ الإنتقال عن بعد Teleport ( كما في قصص الخيال العلمي).
فبعد أن حصلت على التأكيد لكونها كائن من الإنارة في جسد أنثوي، أدهشت الحاضرين بأمر أكثر إغراقاً في الغرابة ، وهو انتقالها إلى حقل آخر في الكون متحولة من كونها بودا أنثوي إلى بوديساتفا ذكري، مما يضيف إلى قائمة تجاوز كل التحديدات الإجتماعية أيضاً إزالة الفروقات الجنسية.
كما أن مغزى تحولها من أنثى إلى ذكر في مكان آخر كان اشارة إلى البوديساتفا الذكور انهم أيضاً لربما كانو مثلها إناثاً في حياة سابقة (مما يفقدهم في المغزى أي أحقيّة بالإستعلاء).
من خلال مختلف الأمثال والإستعارات والوسائل الماهرة في التعبير، قدّمت سوترا اللوتس رؤية من السلم والتناغم والحرية يشمل كل الإنسانية.
وقد بيّنت السوترا أن مجرد الرغبة في قبول تعاليمها للوصول إلى السعادة والحكمة كفيل بتوليد حقل من السلم والإزدهار في حياة الناس دون أي تمييز.
البوديساتفا الإنسان الهادف إلى الإنارة 🔗
كان هدف البودا ايجاد حل لمشكلة المعاناة بين الناس، عبر توعيتهم إلى تعاليم أساسها احترام كرامة كل فرد.
ولتحقيق هذا الهدف قام البودا بتهيئة وإرشاد عدد كبير من أتباعه – الذي يطلق عليهم اسم “البوديساتفا” Bodhisattva أي “الإنسان الهادف إلى الإنارة”. فكلمة “ساتفا” Sattva تعني الكائن الواعي Sentient Being وكلمة Bodhi تعني طبيعة الإنارة .Enlightenment
وبما أن حقل الإنارة وجود طبيعي في الفكر الإنساني كإمكانية – لذلك فحقل البوديساتفا كذلك، وجود طبيعي في حياة كل فرد.
حتى في حياة من هو لم يسمع قبلاً أو لم يهتم بموضوع الإنارة، فإن حقل البوديساتفا ذو وجود فعلي في كل من يضع في فكره وتصرفه الرغبة في مساعدة الآخرين وتقديم العون لمنع الأذى أو المعاناة. ويمكن القول أن دوافع الأم تجاه طفلها هي من دوافع حقل البوديساتفا فيها. وتعميم هذة القدرة الإنسانية لحماية ومساعدة كل الناس، وليس فقط الأقربين للفرد – هي دوافع حقل البوديساتفا - الخطوة الأولى للوصول إلى حقل الإنارة.
ولأجل نشر تعاليم اللوتس في المستقبل البعيد، قام البودا في نصّ سوترا اللوتس بتشكيل صورة رمزية يظهر فيها إنبعاث عدد كبير من بوديساتفا المستقبل يخرجون من سطح الأرض بأبهى حلّة واتقاد روحي – وهم يتحلقون حول البودا ويعاهدونه على نشر تعاليم اللوتس بعد رحيله (لأجل إنقاذ الناس من المعاناة).
ومعنى ظهورالبوديساتفا من الأرض يشير إلى أن بزوغهم ضمن أرض المجتمع الذي قد ولدو فيه هو ظاهرة طبيعية كما تبزغ النباتات من سطح الأرض.ويشير نصّ السوترا إلى هؤلاء البوديساتفا أنهم كزهرة اللوتس ضمن وسط موحل، وأنهم من القوة النفسية والنقاء الروحي بحيث لاتؤثر بهم موبقات المحيط وأمراضه الإجتماعية، ولايؤثّر بهم أو يؤذيهم انتقاد أو إساءة – ذلك أنهم في ضمن حقل تعاليم اللوتس في أمن وحماية.
هناك معنى كامن متضمن في استخدام السوترا للصورة الرمزية حول ظهور البوديساتفا من الأرض. فالبزوغ من الأرض (التي يعود إليها الإنسان بعد الموت) يعني أيضاً الانبعاث من حيوات سابقات إلى الوجود مجدداً. وكذلك يعني ظهورهم، ذكوراً وإناثاً، من ضمن الأرض الواقعية التي يحيا فيها المجتمع، أنهم من ضمن نفس الأرض وليسو مختلفين عن غيرهم من الناس، بل إنهم أفراد عاديون يدركون ضمناً أنهم بمثابة “إرساليات من عالم الإنارة”.
وبذلك تقدّم السوترا مفهوماً جديداً حول هوية هؤلاء البوديساتفا في كون كل منهم كالأفاتار أوالإرسالية صادرة من عالم الإنارة في مهمة واقعية لمساعدة الآخرين. وهذة المهمة تنبع من ضمن حياتهم الخاصّة في المجتمع، أي أنها شعور ذاتي من اختيارهم الشخصي.
كانت التعاليم التدريجية السابقة للوتس قد باعدت بين حقل البودا (أو الإنارة) وحقل البوديساتفا بمراحل طويلة الأمد. خلافاً لذلك، تنفرد سوترا اللوتس بمفهوم “بوديساتفا الأرض” الذي يمكنّ من الوصول إلى الإنارة في الحياة الحالية، ويوحدّ بين حقلي البوديساتفا والبودا. وهذا مفهوم ليس له مقابل في الفكر الأسبق لفلسفة اللوتس، التي تنفرد في تبيان أن الطريق إلى الإنارة (في فعاليات البوديساتفا)، والهدف في الإنارة (الكون إنسان الإنارة) – لاينفصلان.
برج الكنوز والإحتفالية في الهواء 🔗
تستمر ميثولوجيا سوترا اللوتس في ابداع لوحات غنيّة بالأحداث والمعاني. فبعد انبعاث أعداد كبيرة من البوديساتفا من الأرض، ولدهشة جميع الموجودين في مكان الإجتماع، يبزغ من الأرض بتؤدة شيئاً فشيئاً صرح هائل الحجم. ويوصف هذا الصرح بأنه كالبرج العظيم التكوين، ذو أبعاد خيالية في الحجم، مزداناً بالمعادن القيمّة والجواهر.
وتنفتح في أعلى هذا البرج المليء بالكنوز بوابة تظهرشخصّاً مهيباً هو بودا من حياة سابقة، قد حضر من حقب الماضي إلى الزمن الحاضر عبر هذا الصرح ليعطي إثباتاً أو إقراراً على صحّة ماتقدّمه سوترا اللوتس.
وفي تلك اللوحة الروحية المغزى يقوم “البودا من الماضي” بدعوة “البودا من الحاضر” للصعود إلى البرج ليمكثا بجانب بعضهما البعض. وبمقدرات رمزية من الخيال، يصعد البودا في الهواء وياخذ مقعداً ضمن برج الكنوز.
ويبيّن المعلّم “نيتشيرين” Nichiren )الذي اتخذ من سوترا اللوتس أساساً لتعاليمه( في كتاباته في القرن الثالث عشر في اليابان – تفسيراً يشرح اللغز حول برج الكنوز:
المقصود من رمز هذا البرج المنتصب فوق الأرض والشامخ إلى السماء هو الإشارة إلى جسم الإنسان أوكيان الفرد العادي، ذكراً أو أنثى – المنتصب فوق الأرض، بينما يقصد بوجود البودا ضمنه هو وجود ال Buddhanature أي حقل أو روح الإنارة ضمن جسد الإنسان - حياة بعد حياة.
وتستمر القصّة الرمزية لبرج الكنوز في إعطاء المعاني: فلأجل أن لايكون البودا في برج الكنوزعالياً في البرج فوق مستوى البوديساتفا (الذين قد ظهرو من على مستوى سطح الأرض)، يقوم البودا في سياق القصّة باستخدام قدرات خيالية كما في الأحلام يرفع بواسطتها كل الناس إلى مستواه الكائن في أعلى برج الكنوز.
وكما في تصوير ساحر ذهبي المغزى، يطوف البوديساتفا مرتفعين في الهواء ليصبحو مساوين في مستواهم مع البودا – مشاركين في لوحة تدعى “بالاحتفالية بين الأرض والسماء”. وفي هذا إشارة إلى المعنى أن الإنسان المنار لايستعلي على الآخرين في المجتمع بل هو يرفع من مستوى حياتهم ليصبحو في مستواه.وكما يشرح المعلّم “نيتشيرين” Nichiren، فإنّ برج الكنوز ليس إلاّ رمز معنوي لإنتصاب وكرامة الفرد الإنساني ، ذكراً أو انثى، إذ أن جسد الإنسان بالذات هو صرح الكنوز يتّقد ضمناً بحقل الإنارة. ويشرح كذلك أن قائد جميع البوديساتفا المشاركين في “الإحتفالية في الهواء” (أو “الإحتفالية في السماء”) – أن ذلك القائد قد دخل أيضاً إلى برج الكنوز ليستلم مهمة نشر تعاليم اللوتس في المستقبل.
بذلك تعتبر لوحة هذة “الإحتفالية في السماء” أنها كانت بصدد تسليم الرسالة (أو تعاليم اللوتس) من بودا الماضي إلى بودا الحاضر إلى بودا المستقبل (والذي تمثّله شخصيّة قائد البوديساتفا). ويدعى هذا القائد: بوديساتفا “الممارسات الأرقى إنسانية Superior Practices “وهو ما اتخذه المعلّم نيتشيرين على أنه كنه هويته الشخصية، مبيناً في ذلك تفسيره لميثولوجية سوترا اللوتس، أن الفرد العادي في هذا العالم الواقعي يمكن أن يتخذ هويته الروحية بنفسه – منتقياً ما يثيره في نصّ السوترا من إلهام له، وبما يجعله يحيا في الواقع روح تلك الهويّة الروحيّة ويستفيد من ثراء قدراتها في ضمن حياته اليومية.
صعوبة مفاهيم فلسفة اللوتس 🔗
في إحدى فصولها تشير سوترا اللوتس عن أنها بالغة الصعوبة في التصديق، وأن كثيراً من الشك سيتولد لدى الكثيرين حول إمكانية تحقيق ما تدعو إليه: وهو إنارة الإنسانية في كل فرد.
فهي تقدّم عالماً يشبه حلماً ذهبياً حول إمكانية حياة الناس في جو من الطمأنينة والسعادة والإنجاز، إذ تبيّن أن الإنسان العادي في كيانه الحالي - كما هو أو هي - إنما كائن حي يحمل حقل الحكمة والتعاطف والقدرات التي تمكنّه من النجاح في تحويل كل الظروف إلى فائدة له وللآخرين.
ولكن هذة الإمكانية العظيمة للفرد تتطلّب الرغبة والشوق لتحقيقها وليس الشك بها. وتلجأ السوترا إلى تصوير مرح فكرياً (يهدف إلى شرح الصعوبة في إعتقاد المتشككين أن وضع الإنارة ممكن في الواقع الفردي): فيلجأ النصّ إلى إيراد أحداث خيالية تماماً، ثم تعلن السوترا أن هذة الأحداث الخيالية إنما سهلة التصديق بينما يكون تصديق السوترا أصعب منها.
فمثلاً تورد السوترا صورة مستحيلة الحدوث في الواقع ولكن يمكن تخيّلها ببساطة. مثلاً: أن شخصاً يحمل خشباً قابلاً للإشتعال يمشي فوق لهيب من النار دون أن يصيبه أي سوء ودون أن يحترق مايحمله، فهل هذا ممكن؟ تقول السوترا أن هذا غير ممكن ولكن يمكن تصورّه في الفكر بسهولة (وتوحي بذلك أن الفكر ذو قدرة هائلة على الخيال تفوق تحديدات الواقع).
وتعطي مثلاً آخر بالغ الخيالية: عن شخص موجود على سطح الأرض قد رمى إلى كوكب آخر خيطاً بحيث دخل الخيط في ثقب إبرة في ذلك الكوكب البعيد، فهل هذا ممكن؟ تقول السوترا أن هذا غير ممكن، ولكن الفكر يمكن أن يصنع هذه الصورة الخيالية، ويشكلّها بسهولة بل ويراها في مخيّلته. إنه بمجردّ قراءة أو تخيّل ذلك المثال قد تمّ للفكر صنع هذة الصورة المستحيلة. ورغم أن الفكر قادر بسهولة على تشكيل صور مستحيلة، فإن نفس الفكر يجد صعوبة في دحر الشك في صحة تعاليم سوترا اللوتس. والسبب في ذلك هو أن فكر المجتمع الموروث يضغط على الفرد ويجعله دونياً بحيث يصدّق الفرد عن نفسه كونه دونياً دون أمل – بينما تعلن السوترا أن الفرد يحمل أسمى مافي الوجود من قيمة. وهذا صعب تصديقه في فكر المجتمع الضحل.
عداء مفاهيم سوترا اللوتس 🔗
تورد سوترا اللوتس تنيوءاتها بمواقف العداء المباشر لتعاليمها. فالتعاليم التي تدعو إلى احترام كرامة كل فرد وإلى إزالة أي تصنيف مسيء بين الأفراد – هذة التعاليم لن تكون مقبولة من قبل طبقة المتسلطين والمتكبرين على الناس العاديين. وبطبيعة الحال، فإن فكرة وجود الطبيعة الفطرية للإنارة كإمكانية في كل الناس – حتى ولو لم تظهر في واقعهم بعد – تشكل مصدر قلق ورفض للفئات التي مصدر معيشتها استغلال الناس والهيمنة على حياتهم، بل حتى وإضعافهم. وهناك ثلاثة فئات من المعادين لتعاليم الإنارة:
أول هؤلاء: ذوي السلطة والتحكم بحياة الناس، ثم تأتي فئة المتعنتين والمتطرفين في الآراء الدينية، وأخيراً فئة المخدوعين السطحيين (والذين يوجههم ويعتمد عليهم قادة المتطرفين فكرياً والمتسلطين على حياة الآخرين).
ولكن هذا العداء مفيد من وجهة نظر السوترا في إعطائه الدليل على التحقق من صحة ممارسة تعاليمها – والتي هي مصدر ازعاج وهزيمة لاتّجاه التكبر والسلطوية وخداع اليسطاء. إذ يمكن أن نعلم عن حقيقة شخص ما بمعرفة نوعية من يعاديه.
إحياء تعاليم اللوتس في اسلوب الإنشاد 🔗
بشكل عام، تهدف الممارسات الروحية إلى تمكين الفرد من الشعور السامي بوحدته مع الطبيعة، وإلى تمكينه من استخدام قدراته الداخلية، ومنها قدرة الصوت. فالصوت واصدار الكلام ذو قدرة روحية كبرى.
هناك عديد من الطرق الروحية التي تستخدم الإيقاع والأناشيد. كل الطقوس الروحية للقبائل في التاريخ تعتمد الأناشيد والرقص والموسيقى، احتفاءً بالحال الشعوري السامي لوحدة الإنسان والطبيعة. بل إن النداء الشهير"هللويا” Halleluiah هو نداء ذو أصل آرآمي ويعني “هلّلو ليَّ” - والتهليل هو استخدام الصوت في الإشادة والترحيب.
ولكن، كيف يمكن للفرد بواسطه الإنشاد توليد حقول شعورية سامية؟
إن المبدأ في الإنشاد سهل مقارنته بما نعرفه عن تأثير اللحن الموسيقي على حواس الإنسان ومشاعره. فمن المعروف أن ترددات الصوت أو الألحان تستدعي في الإنسان مشاعراُ داخليه عميقه. إنه يمكن بواسطة الصوت تحريك مشاعر ألسامعين. ويمكن أيضاً مقارنة تأثير إيقاع الإنشاد بتأثير الإهتزازات الموسيقية، فهو يتم على مستوى حياتي عميق، ويسبب في الشخص المنشد شعوراً داخلياً بنقاء الفكر وبالراحة النفسية.
وهناك تفسير فيزيولوجي حول ميّزة الإنشاد: فهو ينظّم حركة العضلات المسؤولة عن اصدار الصوت بشكل دوري ايقاعي يؤدّي إلى وضع توافق (أو تزامن) بين تواتر التنفس وعمل القلب بما يعطي شعوراً بالراحة. وللصوت قدرة كبيرة من كلا الناحيتين الفيزيائية والنفسية، فالإهتزازات الصوتية تنقل المعلومات الفكرية ذات المعنى وتحمل ضمنها أيضاً إشارة إلى العواطف والمشاعر. أي أن الصوت تكامل للصفات: الفيزيائية والفكرية والشعورية ((body – mind - spirit .
الفارق بين أسلوبيّ التأمل والإنشاد 🔗
خلافاً لأسلوب التأمل الصامت Meditation والذي يتطلب ظروفاً خاصة في المحيط لممارسته، وجهوداً للتركيز بطيئة التأثير، فإن الإنشاد Chanting أكثر فعالية وفائدة، ويمكن ممارسته من قبل أي فرد دون دروس تعليمية من أحد، وهو إجراء مباشر في نتيجته (والتي هي تحريض قدرة الإنارة المختزنة في الفرد).
ولمعرفة بعض أبعاد (أو بالأحرى تقييدات ومحدودية) أسلوب التأمل الصامت، يمكن الإستفادة مما قد نوّهّت به الراهبة التيبتية Tenzin Palmo التي سبق ذكرها - في كتابCave in the Snow والذي ذكرت فيه أنها قد مارست التأمل الصامت لمدة اثني عشر ساعة يومياً في فترة مدتها ثلاثة سنوات (ص 119 من الكتاب المذكور) ولكنها بيّنت أن رحلتها الروحية لاتزال في البدء وأن الوصول إلى الإنارة عبر التأمل الصامت يقتضي عدداً من الحيوات (ص 207 من الكتاب المذكور). وفي هذا الموضوع إشارة واضحة للفارق بين تعاليم اللوتس (أو المنهج البوذي النيتشيريني) وبين مختلف التقاليد البوذية الأخرى.
يتسم الإنشاد بكونه أسلوباً عملياً، ذلك أنه غير مقيّد بأوضاع المكان ولايتطلب وضعا خاصّاً للجسم أو تحديداً بأي ظرف. ويمكن ممارسة الإنشاد أيضاً في الفكر دون إصدار الصوت (إذا كان ذلك أكثر مناسبة للمحيط).
لاشك أن التأمل الصامت ذو فوائد مرحلية ، ولكن جميع هذة الفوائد محتواة أيضاً في الإنشاد الصوتي الذي يثير احساساً بأخذ زمام المسؤولية على قيادة الحياة. وفي حين يتفادى التأمل الصامت الأفكار السلبية، فإن الإنشاد يهزمها ويمنع تواردها، حيث يستند أساساً إلى أعلى مستوى من القدرة النفسيّة.
كيف يعمل الإنشاد 🔗
كما في الغناء الروحي، يؤدّي الإنشاد إلى الشعور بالراحة الضمنيةّ وزوال التشنّج. وحين تختفي التناقضات الضمنيّة فإن الساحة الفكرية ترتقي إلى مستوى أعلى من العقلانية والإتّزان، ويسود شعور مريح بالإتقاد والمقدرة على الفعالية السليمة دون خوف. وضمن هذا النفسيّة الإيجابية يدرك الفرد بصدق مع نفسه ماهي الأسباب التي أدّت إلى ما يقلقه من أمور، ويبدو في الفكر ايحاء بالموقف الأسلم والمقدرة على القيام بالعمل ذو الفائدة.
من أين تأتي القدرة النفسيّة العالية التي يوفّرها الإنشاد؟
كل القدرات النفسيّة طاقات كامنة بالفطرة. فقدرة الحب، مثلاً، طاقة نفسية عظيمة موجودة ضمناً. كذلك، فإن المشاعر والرؤى المتقدة من الإنارة: عبارة عن طاقة كامنة موجودة ضمنياً يمكن أن يتمّ تحريكها عبر استخدام الصوت في ايقاع جملة الإنشاد (التي تختزن تعاليم اللوتس).
الإنشاد بحد ذاته إذن لايغيّر الواقع بل يغيّر من التهيّؤ النفسي للفرد - الذي بفعاليته يمكن له تحسين ظروفه (اعتماداً على استخدامه لقدراته الكامنة).
يعالج المعلم “نيتشيرين” موضوع التيقّن من فعالية الإنشاد بأن يقوم الفرد بالحصول على “الدليل الحقيقي” Actual Proof وذلك بالقيام بتجربة تهدف إلى استخدام قدرة الإنشاد لمجابهة امر ما (أو مشكل معيّن) يقتضي التغيير في واقع الفرد اليومي. بذلك - عبر الإنشاد - يحصل الفرد على البرهان لنفسه أنه قادر على استخدام طاقاته (التي حرّكها الإنشاد) للعمل على تحويل الصعوبات وتخطّي المعاناة وعلى الشعور بالسعادة والقيمة.
وبيّن المعلّم “نيتشيرين” أن رغبة الفرد في الكون في وفاق مع روح الحياة أي قانون الوجود (ميوهو – رنكة – كيو) هو الطريق إلى انفتاح بوابة الإنارة ضمن حياته أو حياتها.
هذا الوفاق الداخلي سبب في تدفق القدرة الفكرية والروحية في حياة الفرد، حيث تزول العوائق النفسيّة وتضمحل القوى السلبية بينما تتقد القوى الإيجابية في التأثيروالعون.
تعبّر الكلمة السنسكريتية Namu أو Nam (والتي تلفظ بما يشبه لفظ كلمة “نعم” في العربية أو بالأحرى “ناهَم”) عن هذة الرغبة الضمنية للفرد بالإنسجام التام مع حقيقة الحياة (ميوهو- رنكة – كيو).
بذلك يصبح لفظ جملة الإنشاد مشابه ل (نعم - ميوهو - رنكة - كيو) أو ( ناهَم - ميوهو – رنكة - كيو) أسوباً “للتأمل الفعّال” (أي استخدام الصوت بهدف إيقاد حقل الإنارة، عوضاً عن الأسلوب التقليدي في “التأمل الصامت”).
تشير المصادر الفلسفية المختلفة أن أسمى وضع للإنسان هو شعوره بوحدته كفرد مع روح الكون، أي انسجام شخصّه الخاص مع واقع الوجود العام. وهذا يعني أيضاً وحدة الجانب الفيزيائي للفرد مع الجانب الروحي للحياة الكونية. هذا الإندماج بين الفرد والكون هو مايدعى أيضاً بوضع الإنارة.
ويعبّر استخدام الصوت في الإنشاد عن اندماج ووحدة الجانب الفيزيائي للفرد (حيث أن اصدار الصوت ذو طبيعة فيزيائية)، والجانب الروحي للحياة في الرغبة (ناهَم) في الإنسجام مع روح حياة الكون (ميوهورنكة كيو).
لماذا تكون هذة الجملة بالذات تعبيراً عن حقل الإنارة؟ 🔗
طالما أن الإنشاد بحّد ذاته أسلوب معروف في كل الثقافات – واستخدام الصوت ليس محطّ تساؤل في الممارسات الروحية، يأتي السؤال الرئيسي حول ممارسة الإنشاد في معرفة السبب في التركيز على فحوى الجملة المستخدمة فيه وهي “نعم ميوهو رنكة كيو” – كرمز إلى حقل الإنارة.
يبيّن المعلّم “نيتشيرين” - مؤسس أسلوب الإنشاد - أن التعاليم السابقة لسوترا اللوتس نوّهت عن وجود حقل الإنارة دون شرح واف، ولم تشر إلية بتسمية محددة. أما سوترا اللوتس فهي تبدأ مباشرة في عنوانها بإعلان تسمية حقل الإنارة الفطرية في الإنسان بعبارة “ميوهو رنكة كيو”.
وكما أننا نشير إلى الأمور بأسمائها، لذلك فإن الإشارة الصوتية إلى “ميوهو رنكة كيو” بالذات هو استدعاء لكل محتويات هذا الحقل من المعلومات والقدرات الداخلية (والتي تنفرد في تقديمها سوترا اللوتس). لذلك فترداد الإنشاد الإيقاعي هو إحياء للحقل الذي يحوي معنى كلماته. وهذا يؤدّي إلى الشعور بحقل الإنارة ضمنياً.
هناك مبدأ منطقي وفلسفي حول “علاقة الكلمة بمحتواها”. فالكلمة ليست مجرد أحرف متتالية، بل عنوان واستدعاء لحقل من المعنى موجود في الواقع (حيث الكلمة بوابة له تستدعيه بمجرد لفظها). إنه لا يمكن فصل كلمة معينة عن مدلولها ومحتواها (إذ بذلك تفقد معنى استخدامها).
لذلك فإنه لا يمكن فصل عبارة “نعم ميوهو رنكة كيو” عن حقل الإنارة الفكرية الذي تشفّره وتستدعيه بمجرد الإنشاد.
وبما أن حقل الإنارة ذو وجود طبيعي في كل الناس، فعبارة “نام ميوهو رنكة كيو” تشير إلى هذا الحقل في كل الناس حتى ولو كانت لغاتهم مختلفة، وحتى ولو لم يعلم الفرد عن معنى هذة العبارة.
فمثلاً: كما في حال استخدامنا لدواء لأجل الشفاء – فإن جودة فعاليته تكون ملموسة في خبرة كل من يتناوله، حتى ولو لم يعلم من يتناوله عن التركيب التفصيلي للدواء.
حول التشكك بأسلوب الإنشاد: إن حقل الإنارة موجود في العقل الباطن في كل فرد كإمكانية. فالإنسان ليس محددا بوعيه الحالي فقط. وكمثال حول الإمكانيات الخفيّة للفرد، يمكن ملاحظة مستوى فكر الطفل أو اليافع – والذي هو محدود بالوعي الحالي له. ولكن حقل الفكر الباطن للطفل يتضمن إمكانية البلوغ إلى يافع ناضج في المستقبل. أي أن الوعي يحوي إمكانيات كبرى.
وكذلك الأمر في حال الفرد في كل مراحل الزمن: هناك دوماً حقل من الإمكانيات والقدرات الثمينة – ولكن لايمكن استخدامها أو الإستفادة منها إلاّ إذا تم أولاً الإعتقاد بوجودها ضمناً. وهذا يتطلّب سعة في الأفق ورغبة في النمو والنضج خلافاً للمحدودية وفقدان الأمل.
إذا اعتقدنا أن هناك إمكانيات كبرى في حياتنا )أكثر بكثير مما يقدمه فكر المجتمع المحدود بالمعاناة) - فإن أول ما يسأله الفرد هو: ماهي الطريقة، أو كيف لي باستخدام هذا الحقل الضمني العظيم الثراء والحكمة. والإجابة على هذا السؤال هي أن استخدام إيقاع الإنشاد يقود الوعي مباشرة إلى تحريض وإحياء حقل الإنارة في الفكر والمشاعر.
إن محور التشكك بفعالية الإنشاد إذن ليس حول استخدام الصوت بالذات بإيقاع عبارة “نعم ميوهورنكة كيو” - بل هو التشكك بوجود حقل الإنارة أساساً ضمن فكر الإنسان. وهذا الشك بوجود امكانية الإنارة ناجم أفكار المجتمع أو عن كل ما يسبب الشعور بالدونية وعدم الإستحقاق.
القوى السلبية المضادة للإنشاد 🔗
يمكن رؤية الإنشاد على أنه تعبيرعن رغبة شخصية لقيادة الفرد لحياته باتجاه تحقيق الإنارة. أي أن القيام بالإنشاد هو قرار ذاتي وإعلان للسيادة على مسار الحياة وقيادة للفكر (نحو النجاح في العلاقات والقيمة في التصرفات). ولكن نفسية الإنسان تحوي أيضاً دوافعا مضادة لنموه ومنها ضعف الثقة بالذات، والعاطفية المبالغ فيها (والتي تضعف من تحكيم العقل) وأيضاً الكسل عن بذل المجهود. مثل هذة الدوافع السلبية تجد في الإنشاد نقيضاً لوجودها في حياة الفرد.
أول الميول السلبية التي تحاول ابعاد الشخص عن النمو هي التكاسل عن بذل الجهد (للنمو الفكري والروحي). كذلك يمانع في الإنشاد التفكيرالأناني، والعناد والسطحية. هذة القوى السلبية موجودة في نفسية كل فرد وتنبع أساساً من اعتقاد طفولي بدونية الذات أو بضعف القيمة الشخصيّة، وكذلك تهدف أيضاً إلى إرضاء المحيط وآراء الآخرين.
إن القوى المعادية أو الساخرة بالإنشاد ليست أساساً ضد الإنشاد (كاستخدام التهليل الصوتي أو النداء الروحي، والمتبع أو المعترف به بشكل عام)، ولكنها قوى تتولّد من فكر العجرفة وعدم التصديق بوجود حقل ضمني أعلى للقدرة الذاتية (كإمكانية يمكن تحقيقها في الواقع).
ذلك لأن الإعتقاد بوجود حقل ثراء الإنارة سيأتي حتما بالتساؤل: كيف لي الإستفادة من ذلك للقضاء على مايعيق النمو والنضج.
ورفض فكرة وجود حقل الإنارة ينبع من الرضى بفكر الضحالة والدونية وعدم بذل الجهد للكون انساناً أفضل في الفكر والتصرفات.
ماهي لغة كلمات الإنشاد ؟ 🔗
يمكن القول أنه إذا كان حقل الإنارة جزءاً من الفكر الإنساني، مشتركاً وموجوداً ضمنياً في حياة جميع الناس ـ إذن فإن إمكانية استدعائه يجب أن تتخطى الفروقات اللغوية بين الناس.
أي أنه يتوقع أن ترداد كلمات الإنشاد ذاتها سوف تؤدي الى نفس النتائج المرجوه لدى الجميع وبما يتخطى الفروقات اللغوية أو الإثنية بين الناس. ويمكن اعتبار الإنشاد بوابة إلى شعور انساني فطري في التوق إلى السعادة والأمن.
كلمات الإنشاد تأتي من اندماج ثلاثه لغات، هي: السانسكريتية والصينية واليايانية. فمصدر كلمةNam هو اللغة السانسكريتية بينما تأتي كلمات MyohoRengeKyo من ترجمة عنوان سوترا اللوتس إلى اللغة الصينية ولكن تلفظ صوتاً كما في اللغة اليابانية. ولهذا الترابط اللغوي مغزى بالغ الأهميّة.
فاللغة السانسكريتية مصدر لعائلة لغات الهند أوربيه Indo-European languages التي ينتمي أو يتأثر بها عدد من لغات شرق وغرب أوربا (مثلا اللغة الإنكليزية واللغات السلافية).
بذلك فإن كلمات الإنشاد، في كونها نتاج أو مزيج لعدد من اللغات، تعـبًرعن مغزى ترابط الحضارات البشرية، وعن تفاعل انساني عام في التوق إلى وقف المعاناة والرغبة إلى الوصول الى الإنارة لدى كافة الناس.
معنى كلمات الإنشاد 🔗
إعادة لما سبق ذكره من شرح لمعنى كلمات الإنشاد، يمكن ايراد شرح تفصيلي للكلمات، ولكن من المفيد الإشارة إلى المعنى العام لروح العبارة “نعم ميوهو رنكة كيو”.
فمن الممكن فهم المعنى الشامل لِلإنشاد على أنه قيادة الفرد لحياته – أي أنه إعلان بالرغبة في أن: “أقود حياتي إلى السعادة والقدرة والحكمة "
ذلك أن كلمه " ناهَم " Nam– تحمل معنى التوافق التام مع حياة الكون. وكذلك تتضمن الرغبة الذاتية في قيادة حياة الفرد الى وضع الإنارة.
وتشير كلمة " ميو هو” Myoho إلى “كنه الوجود”، حيث Myo تعني “الكنه الرائع” للحياة، والذي يتجسّد بشكل مرئي في واقع الوجود ho .
وبما أنّ كل كائن Myoho في تفاعل دائم مع المحيط (والذي هو نسيج الوجود تحوكه علاقات مترابطة)، لابدّ إذن أن يكون لكل حركة أو تفاعل انطباع أو نتيجة. وهذا يعني أن مسار الحياة يسري حسب ديناميكية تربط الأسباب بنتائجها - وهو المبدأ الذي تعبّر عنه كلمة " رٍن كٍه” Renge.
أي أن Renge Myoho وصف لديناميكية الحياة في كل ظواهرها.
وتعني كلمة “كيو” Kyo : النظام الأبدي الشامل للوجود.
بذلك يمكن الإشارة إلى Renge Kyo Myoho ب: “النظام الكوني لحياة الوجود”.
وحدة الإنسان والكون 🔗
تتفق كثير من الفلسفات الروحية على أن هدف كل انسان هو وحدته كفرد مع حياة الكون والتي هي مصدره. صحيح أن الفرد نتيجة لوجود عائلته، ولكن عائلته أيضاً نتيجة لوجود عائلات أسبق، وهذا يشمل كل المجتمع وكل وجود الطبيعة (والذي هو المصدر الذي لايمكن للحياة أن تتواجد بدونه).
هذا الهدف السامي (في وحدة الفرد والكون) يمكن أن يتم أثناء هذة الحياة، وليس بعد الموت أو في حيوات لاحقات. بل من الأحرى أن يحيا الإنسان في هذة الحياة الحالية وجوده بانسجام وسعادة.
إن كلمة “نام” Nam (من جملة الإنشاد) تعبيرعن رغبة ذاتية Subjective (أو ارادة شخصية) للفرد في التوافق (أي الكون في انسجام) مع قانون الحياة Myoho Renge Kyo والذي هو وجود موضوعي Objective للوجود.
لذلك يمكن اعتبار “نام ميوهو رنكة كيو” إدراكاً لوحدة الذات الفردية مع الكون المطلق”. أو كما يشار إليه بوحدة الكيان الفردي الصغير (Microcosm) مع الوجود الكوني الأعظم (Macrocosm).
يمكن التعمق بشكل أكبر في تفسير كلمات الإنشاد، على أن المهم هو جني الفائدة العملية من الإنشاد، والتي تتحقق دوماً حتى بدون معرفه تفصيل معاني الكلمات. ذلك أنه يمكن مقارنه الإنشاد مثلاً بتناول الدواء المفيد:
فكما في حال تناولنا للدواء، فإنه من الممكن طبعاً دراسه مكونات الدواء الكيميائية بتفصيل ومعرفة المواد الداخله في تكوينه ـ ولكن المهم في حصيلة الأمور هو الفائدة العملية من تناولنا للدواء في الواقع.
تسجيل سوترا اللوتس في لوحة كتابية الكوهونزون Gohonzon 🔗
بعد أن بين نيتشيرين أن الإنشاد هو الطريق المباشر لإستدعاء حقل الإنارة، قام أيضاً بتسجيل كلمات الإنشاد على لوحة ورقية (أو خشبية) كسجل مكثّف يشمل ويكدّس كل تعاليم اللوتس.
وقد سمّى تلك اللوحة بال “كوهونزون” Gohonzon وتعني: “التقدير الأعمق والإحترام لحياة الإنارة”. هدف هذة اللوحة هو المساعدة في التركيز أثناء عملية الإنشاد، لأجل تحريض الشعور الضمني بالإنارة.
والتركيز على الشكل الكتابي للوحة الكوهونزون يميّز الفلسفة النيتشيرينية عن غيرها من التقاليد البوذية، التي تتخذ لأجل التركيز تمثالاً للبودا. وقد بيّن نيتشيرين في كتاباته أن استخدام التماثيل كان تقليداً قديماً وليس بذو جدوى في الممارسة الروحية لفلسفة اللوتس.
وبذلك تختلف الممارسة الروحية للفلسفة النيتشيرينية عن غيرها في أمرين: اولاً استخدام الإنشاد عوضاً عن التأمل الصامت وثانياً في استخدام اللوحة الكتابية للتركيز عوضاً عن التماثيل (التي تمثّل اشخاصاً من البودا أو البوديساتفا – حيث أن الأشخاص زائلون، بينما كنه قانون الحياة (ميوهو رنكة كيو) في لوحة الكوهونزون الكتابية إنما ذو معنى يتخطّى التحديدات الشخصية أو الزمانية.
إن نفس الحقل الروحي : “حياة الإنارة” - الذي تشير إليه لوحة الكوهونزون موجود ضمن حياة الفرد وليست خارجة عنه. لذلك فعلى الرغم من أن هذة اللوحة تعتبر مكانيا خارج الفرد إلاّ أنها كالمرآة الروحية تعكس ما هو ضمن حياة الفرد: حقل الإنارة.
تأثير الإنشاد على علاقات الفرد بالآخرين والوسط المحيط 🔗
بما أن حياة الفرد أصلاً قائمة على علاقات مشتركة مع الآخرين، إذاً لابد لشخص واسع الأفق، متجه إلى وضع الإنسجام والسعادة من أن يؤثر بالضرورة بشكل ايجابي على علاقاته في المحيط.
وتوليد هذا الجو من المرونة والعقلانية في حياة الفرد سوف ينعكس حتماً على كل من هم في حقل العلاقات المتبادلة معه.
ففكر الإنارة النابض بالحكمة وبالقدرة قادر طبعاً على إيجاد الحلول المفيدة المناسبة للجميع، ذلك أن إدراك نتائج التصرفات كفيل بتجنبّ الأخطاء وكفيل بإحلال العقلانية ودفء القلب عوضاً عن تصرفات تنجم عن فقدان الإتزان أو المبالغة في العواطف. وبذلك يمكن لروح الإنشاد التي تنبع من الإنسجام الداخلي أن تولًد نتائجاً عظيمة القيمة في حياة الفرد المرتبطة بالآخرين وبالظروف المحيطة.
إن الناس عموماً تحيا أوضاعاً قلقة وكثير منها أحوال من المعاناة، والكل في رغبة لأجل التغلب على فقدان الثقة وعلى الاستمتاع بالاطمئنان النفسي. وبدءاُ بما هو متوفرعملياً من أوضاع، مهما كانت صعوباتها، يمكن لفرد واحد ضمن محيط من الضغوطات القاسية – استخدام قدراته الداخلية لأجل تغيير الواقع الى ما هو أفضل.
كل ماهو ضروري لذلك متوفّر في حقل الإنشاد، الذي يثير الإمكانيات الضمنية للفكر ويزيد من اتقاد المشاعر ويفتح آفاقاً ذات فائدة مشتركة للجميع.
المفاهيم الروحية بين الديانات الإبراهيمية والفلسفة البوذية 🔗
تعتبر التعاليم البوذية “فلسفة” أو " طريقة في الحياة " وليست ديانة (كما هي حال الديانات الأبراهيمية). وتشترك هذة الفلسفة مع الديانات في عدد من المفاهيم كالخير والشر، الحياة بعد الموت، الثواب والعقاب - ولكن في ترتيب مختلف. فالديانات الإبراهيمية تقتضي بالبعث بعد الموت يوم الحساب، ومقابل ذلك تقتضي البوذية الولادة من جديد بعد الموت ولكن ليس لمرة واحدة – بل بشكل دوري متجدد في كل حياة بما يتيح للفرد إصلاح نوعية علاقاته وتفكيرة. وبما يقابل الثواب والعقاب (نتيجة لفعاليات الفرد) تشير الفلسفة البوذية إلى السعادة والمعاناة (نتيجة لفعاليات الفرد) في الحياة اليومية.
بذلك يمكن النظرة إلى الفلسفة البوذية على أنها طريقة لتحسين الذات وتنمية السيطرة على الدوافع باتجاه العقلانية والتركيز على احترام كرامة كل فرد (بما في ذلك أيضاً احترام كل الأديان والمعتقدات).
ومبدأ اللاعنف واللاإساءة مبدأ اساسي في الفلسفة البوذية ويعتمد أساساً على احترام الإنسانية في كل شخص – أي رؤية الإنسانية أولاً دون تفرقة دينية أو عنصرية أو جنسية أو من ناحية المركز الإجتماعي أو من كون الفرد فقيراً أو ثرياً.
كذلك يمكن اعتبار الإنشاد على أنه اسلوب للتوافق النفسي والراحة المعنوية، وهذا لا يعاكس التقاليد الدينية، بل يساهم في احترام كل الديانات وتقدير الإنسانية في كل فرد.

