⚙︎
عودة للموقع ←


الفصل الثاني


ظهور الحضارة الإنسانية في أماكن عديدة في آن واحد 🔗

قبل التطرق إلى موضوع ظهور زهرة اللوتس في الحضارات المختلفة، فإنّه من الأعمّ الإشارة إلى ظهور الحضارة الإنسانية ذاتها في أماكن مختلفة على الأرض.

فإذا تساءلنا: ماهو أعظم إنجاز في تاريخ الإنسانية على الإطلاق ، لكانت الإجابة حتماً: التحوّل من مرحلة صيد الحيوانات Hunter-Gatherers إلى مرحلة الزراعة Agriculture وما رافق ذلك من بدء الحضارة. فالإنسان البدائي قبلاً كان في هاجس يوميّ من البحث عن طعام مما يمكن جمعه من ثمار - إن وجدت - وما يتمكن من صيده من الحيوانات، بما في ذلك من خطورة وتكريس للوقت الأكبر من اليوم لمجرد توفير الغذاء لأطفاله.

ولكن الثورة الكبرى في حياة الإنسانية جرت عند التحوّل إلى الزراعة والإنتقال من الإعتماد القلق على الصيد إلى الإستقرار في كل جوانب الحياة بداً من توفّر الغذاء من الخضار والفاكهة وأيضاً في الفائدة من تربية الحيوانات الداجنة. وقد اقتضى هذا التغيير أيضاً الثبات في المزارع وبدء بناء البيوت، مما حرّض الفكرعلى اكتشاف المبادىء الهندسية والحسابات. واقتضى نجاح المحصول الزراعي زيادة في المعرفة وتسجيل المعلومات حول البيئة والطقس وحول حماية المزروعات. بذلك بدأت ثورة فكرية كبرى في حياة الناس. وقد ساعد توفّر الوقت لدى عائلات المزارعين إلى التمكن من تحسين وتطوير صناعة الأدوات، وفي نمو الثقافة وتسجيل المعلومات للأجيال القادمة. وبشكل عام جرى تسارع هائل المقدار في التطور الثقافي والروحي في شتّى المجالات.

تبيّن أبحاث البيولوجيا أنه لافارق يذكر بين تكوين الانسان البدائي والإنسان الحالي من الجهة الفيزيائية أو الجسدية. ولكن مرحلة تطورإنسان ماقبل التاريخ - والذي كان يعتمد على الصيد أساساً - قد استمرت أكثر من مليون عام، بينما تحدد الفترة بين بدء الحضارة الإنسانية التي بدأت بمرحلة الزراعة ووجودنا الحالي الهائل التعقيد - بمجرد مايقارب عشرة آلاف سنة فقط ، في أوآخر العصر الجليدي (البليوستيسين).

يشيرالعديد من المصادر أن بزوغ الحضارة الإنسانية الحالية بدأت بالظهور تلقائياً في مناطق مختلفة من الأرض، وبشكل مستقل تماماً.

إذ تبيّن الموسوعة البريطانية (*) أن التحول من الصيد إلى الزراعة قد جرى في عدد من المنطق في ثلاثة قارات: شرق آسيا، الشرق الأوسط وفي أمريكا الجنوبية – في فترة تقريبية في حدود 10.000 سنة.

لم يكن هناك اتصال بين الفرق الإنسانية المختلفة آنذاك، ولم يكن هناك نظام واحد في الطرق الزراعية أو نوعية النباتات المزروعة في مختلف المناطق.

وتبين دراسة مفصّلة حول أصول الحقبة الزراعية (*) أن هناك على الأقل عشرة مناطق مختلفة حول العالم منتشرة عبر مساحات شاسعة في: أمريكا الجنوبية، أمريكا الشمالية، الشرق الأوسط، أفريقيا، الصين، كوريا واليابان - جرى فيها التطور نحو الزراعة بشكل محلي وبما هو مستقل عن غيرها.

ليس هناك من منطقة معينة أو سلالة بشرية يمكن لها أن ينسب إليها الأولوية في ظهور الحضارة الإنسانية. وهذة الحقيقة تعبير عن أن الإدراك الفكري أو الروحي إمكانية بشرية مشتركة بين جميع المجتمعات منذ بدء التاريخ الحضاري.

وهذة الوقائع تؤيّد ما سبق تقديمه حول ظاهرة “اللامركزية في الإدراك” – حيث تبزغ الأفكار والمفاهيم الإنسانية بشكل فطري وتلقائي في ضمن مجتمعات منفصلة، بما لايحقّ لأيٍ منها ادعاء الأولوية.

لذلك، ليس من المستغرب أن نجد مشاركة انسانية متعددة المصادر حول إيلاء زهرة اللوتس اعتباراً خاصاً. فبالإضافة إلى المشاركة الإنسانية في الزراعة واستخدام الأدوات المتشابهة، فإن اللوتس تشير الى عمق روحي وديني ظهر بالفطرة في عدد من الحضارات، بما يستدعي حقاً الإعجاب والإستغراب.

الصفات الروحية لزهرة اللوتس 🔗

يشير التاريخ المسجّل لعدد من الحضارات إلى ذكر وافر لزهرة اللوتس عبر النقوش والتصاوير والكتابات التي تبيّن تقديراً روحياً عميقأً. حتى أن التسمية العلمية للّوتس التي تنمو في الهند Nelumbo nucifera - والتي هي تسمية علمانية - يشارإليها أيضاً ب"اللوتس القدسية" Sacred Lotus - وذلك اعترافاً بورود ذكرها في النصوص الدينية للحضارة الآسيوية منذ الآف السنين.

كذلك فإن قدماء المصريين - خلال أكثر من 4000 سنة من الإزدهار الحضاري - قد تركو تراثاً عظيماً من المنحوتات والتصاوير والأشعار الخاصة بطقوس تقدير للوتس التي كانت جزءاً أساسياً في معتقداتهم الروحية.

هناك وجهة نظر لدى الكثيرين من سكان المنطقة العربية تميل إلى الظن أن اللوتس قد تواجدت أولاً في مصر، وأنها قد انتشرت فيما بعد إلى مناطق أخرى كالهند مثلاً، حيث اعتبرت هناك بكونها ذات قيمة روحية عالية. لاشك في أن الحضارة المصرية القديمة قد أولت اللوتس مركزاً دينياً خاصاً، ولكن إدراك الحضارات الآسيوية لقيمة اللوتس الروحية لم يكن مستورداً بل نابعاً من تراثها الروحي المحلّي، والذي بزغ وتطور في ظروفها الخاصة.

في الواقع ، إن زهرة اللوتس تثير الشعور بالنقاء والجمال لدى كل الناس من مختلف الأصول الإنسانية. إن انطباعها في الفكر الإنساني متشابه، كما في المثال أن كل الناس تقدّرأهمية الماء أو المطر أو قدرة الشمس مثلاً دون أن يعلّمها ذلك أحد من حضارات أخرى.

ومن ناحية أخرى، فإن اكتشاف اللوتس في مستحاثات نباتية في الأرجنتين تعود في تشكّلها إلى ملايين السنين - قبل ظهور الإنسان - لايعني أن أصل اللوتس هو القارة الأمريكية، بل يعني أن المستحاثات المكتشفة (والتي يمكن وجود مثيلات لها في أماكن أخرى) قد حفظت بشكل سليم عبر الزمن في المكان الذي اكتشفت فيه (في أمريكا الجنوبية).

كما أن التعدد الكبير لأنواع اللوتس يشير إلى مسارات مختلفة في تطورها وتأقلمها حسب الظروف المتوفرة في كثير من البلاد - وفي كل قارات العالم بما فيها استراليا وجزر المحيط الهادىْ. هذة الحقائق كفيلة بترسيخ الحقيقة أن اللوتس ظاهرة طبيعية لنوع من النبات المائي، والذي يتشكل في أي مكان يوفّر الظروف المناسبة لنموه.

على الغالب، يبدو أن التفكير أو الظن بارتباط اللوتس بالحضارة المصرية فقط ناجم من واقع الثراء الكبير في وفرة السجلات المصرية (من كتابات وتصاوير ومنحوتات وتماثيل)، والتي انتجها القدماء آنذاك بغزارة حول زهرة اللوتس.

فقد استخدامت اللوتس في الشعائر المصرية القديمة والتي كان كنهها الأعمق: إجلال وتقديس قدرة الكون المبدعة - ممثلة بهذة الزهرة بالذات.

ليس هناك من حضارة تجاري مصر القديمة في مضمار التسجيل اللغوي والتوثيق في وصف الواقع اليومي لذلك المجتمع الغابر، ذلك أن اللغة نفسها كانت تعتبر بحد ذاتها هبة من الآلهة وأداة مقدسّة للتعبير. وتظهر الرسومات على جدران المعابد طقوس تقديم زهرة اللوتس للآلهة كأعطية أو هبة من الإنسان إلى الآلهة اعترافاً وإجلالاً.

على أن الحضارة المصرية لاتنفرد بتقديس اللوتس. فهناك أيضاً آثار ورسومات حول نفس الموضوع في حضارات انسانية أخرى متباعدة وفي ظروف منفصلة تماماً زمناً ومكاناً. وكما ذكر سابقاً، فإن أكثر الوثائق المتوفرة حالياً حول هذا الموضوع تتركز بشكل خاص في ثلاثة حضارات: ديانات السكان الأصليين في أمريكا، الحضارة المصرية القديمة، والديانات الآسيوية. هذا الإجماع الواضح حول تقديس اللوتس بشكل فطري في هذة الحضارات المختلفة هو ما يثير الفضول.

هل يمكن لنا التكهّن بما جذب الإنتباه الفكري للناس واستدعى شغفاً روحياً مميّزاً حول اللوتس؟ لاشك أن التباين الصارخ بين اللوتس ومايحيط بها كان عاملاً مثيراً للإنتباه. فالمستنقع الذي تنمو فيه اللوتس حقل من المواد المتفككة يسوده الفوضى chaos - بينما تبزغ اللوتس من ضمنه كياناً من نظام order رائق التكوين والجمال.

وظهور الكيان التام التنظيم لزهرة اللوتس من حقل مواد طينية ليس فيها أي اتجاه أو هدف محدّد - أثار شغفاً في التفكير، لأن تحويل العشوائية إلى نظام يمكن أن يكون مثالاً ملائماً لوصف عملية الإبداع وبداية الوجود.

وبشكل عام يشمل كل التاريخ الإنساني، يظهر ارتباط موضوع الموت بالبحث عن المعنى الروحي للوجود - أساساً في جميع العقائد الدينية. وليس من المستغرب أن تجمع الحضارات المذكورة على مغزى إيحاء دورة حياة الزهرة بالتجدد وبالحياة بعد الموت إذ أنها تقوم عند موتها باذات بإلقاء البذور الملقحة في الماء لتبدأ دورة حياة جديدة.

معنى التكوين أوالإبداع في العقائد القديمة 🔗

تستخدم كلمة الخلق أو التكوين في كثير من الفلسفات الروحية الغابرة لتفسير وجود الكون. ولكن: ماهو المعنى الواقعي لمفهوم “التكوين”؟

بشكل عام، يتجه الفكر الفلسفي إلى تفسير مفهوم التكوين على أنه القدرة الروحية على تحويل المواد من وجود عشوائي فاقد للهدف إلى كيان ذو اتجاه ومعنى.

فالمادة بحد ذاتها ليس لها هدف - بينما تخلق القدرة الروحية للمادة اتجاهاً وهدفاً ومعنى. وهذا واضح في ما نجده من أعمال فنية مبدعة، فالعمل الفني الخلاّق يحوّل المواد المستخدمة فيه (من ألوان أو مواد للنحت) والفاقدة للهدف بحدّ ذاتها، إلى تشكيل في كيان ذو هويّة ومعنى.

كذلك الأمر في المعتقدات الروحية التي تتخذ اللوتس مثالاً فلسفياً: فهي تعتبرأن الواقع يكون في أحد حالين: إما “الفوضى واللااتجاه” او “النظام والهدف”. وفي كلا الحالين توجد المواد الفيزيائية للذرات والجزيئات وجوداً أساسياً لابدّ منه، (مما يعني أن الوجود لا يبدأ من لاشيء). ولكن هذة المواد الأولية المتواجدة تأخذ معناها فقط حين تتحول عشوائيتها إلى نظام تسري عبره قوانين الطبيعة. أي حين يتحول “حال عدم وجود نظام” إلى “حال وجود نظام ذو اتجاه”.

إن كلمة “عدم” لاتعني باضرورة “عدم وجود المادة”، بل تعني “عدم وجود نظام” - أو “عدم وجود شيء محدد الهوية”. لذلك فاللوتس تحوّل العشوائية والفوضى في مواد المستنقع (أي عدم وجود نظام) إلى وجود بديع وكيان ذو معنى. وهذة النظرة لاتتناقض مع مفاهيم الديانات السماوية في التكوين، لأن القدرة الإلهية سبب وجود النظام الذي يفرض بجبروته على المادة شكلاً ذواتجاه ومعنى.

هل للكون اتجاه ورغبات؟ 🔗

يمكن من ملاحظة الظواهر التي توجد في الواقع الاستدلال على أن الوجود له اتجاه تفضيل في الطبيعة الحية نحو الإنسجام والنمو، واتجاة نفور تجاه الفوضى والتفكك. فليس عبثاً أننا نشعر تلقائياً بما يثير الرضى الداخلي والرونق لدى رؤية منظر يوحي بالتناظر والجمال والتناسق. وبالمقابل ليس عبثاً ما نشعر به تلقائياً من نفور لدى رؤية ما يوحي بعدم التناسق والبشاعة من منظر أو رائحة كريهة. ولكن مايثير فينا مشاعر النفور يكون بالنسبة للحشرات العكس تماماً، إذ يجذبها لأجل تنفيذ ارادة الوجود في تحويل المادة المتفككة إلى مايفيد دورة الحياة من ولادة وموت واستمرارية.

والسؤال المطروح هنا: لماذا اتخذ القدماء أمثلة من كائنات واقعية لتقديس نظام الكون؟

تقديس قدرة الكون عبر أمثلة واقعية: اتخذ تقديس قدماء المصريين لوجود القدرة الإلهية في الكون على أمثلة واقعية، منها مثال تقديس اللوتس كإعلان عن القدرة الإلهية التي تحوّل المواد في الماء العكر إلى زهرة من نقاء. ومن الأمثلة الأخرى العديدة لإيلاء الإعجاب والإحترام لتجلّي القدرة الكونية في الواقع – هو مثال حشرة تحول النفايات إلى مواد غذائية. فقد كان لحشرة الخنفس dung beetle اعتبار خاص لأنها تبيّن قدرة الكون في مقدرتها على الإهتداء إلى هدفها وهي تدحرج كرات صغيرة من خراء الحيوانات إلى كهوفها كمادة غذائية لها. فوظيفة الخنفس هي تنظيف الطبيعة من النفايات. وهذا التنظيم العظيم ومايشابهه من تدبير انما يستحق الإعجاب بقدرة الكون على ادارة وتنظيم حركة المواد.

inline

والغريب أن الحضارة الفرعونية قد أقرنت حركة الخنفس بضوء النجوم – الأمر الذي يوافق الدراسة العلمية الحديثة (*) حول كيف يقوم الخنفس بمعرفة طريقه مستخدماً ميل زاوية أشعة الشمس أثناء النهار، ونور مجرّة الطريق الحليبي أثناء الليل كبوصلة لمعرفة الطريق . وعند انحجاب ضوء الشمس بالغيوم فإن الخنفس يفقد الإتجاه ويصبح آنذاك تائهاً يتبع مهب الريح – أي يسير حسب اتجاه الريح ضائعاً عن مساره. هذا المثال الحي الذي يربط مسار حشرة صغيرة بالشمس و بالمجرّة الهائلة - يوضّح عظمة القدرة الكونية في تنظيم الوجود الدقيق الذي نراه في الطبيعة.

inline

لذلك فإن تقديس اللوتس أو الخنفس (أو أمثلة حيّة أخرى) إنما تقديس للكنه الداخلي فيها - أي للقدرة التي تحرّك حياة الوجود.

النشوة في إثارة الحواس الخمسة 🔗

وقد ربط القدماء إرادة القدرة الإلهية بنشوة الإحساسات الإنسانية التي نشعر بها في الواقع. فما هو مصدر الشعور الإنساني بالنشوة بشكل فطري لما هو مريح أو مثير للإحساسات الخمسة؟ أليست الإرادة الإلهية هي ما يجعل الإنسان يشعر بالإرتياح واللذّة في البصر عند رؤيته منظراً جميلاً؟ إنها إرادة الكون أن يكون الإنسجام في شكل مانراه جميلاً مولّداً للقبول والإنتشاء الضمني، وأن يولّد منظر بشع شعوراً تلقائياً بالنفور. لذلك فإن قدماء المصريين أدركو ارتباط نشوة الأحساسات برضى الآلهة أي بتقديس القدرة الإلهية التي هي كنه مصدرالمشاعر والإحساسات، متخذين في ديانتهم اعتبار النشوة أحد طقوس العبادة.

ولا يقتصر الشعور بالجمال على الرؤية، بل يشمل ذلك الحواس الخمسة كلها: نشوة الرائحة العطرة، والإستمتاع في الطعم اللذيذ، والرونق في سماع اللحن رنيناً موسيقياً يثير الشجن - وكذلك مشاعر اللمس ويتصدرفي هذا الحقل اللذة الجنسية. ليس كل هذا عبثاً بل هو تعبير عن اتجاه واضح في إرادة وتصميم القدرة الإلهية أن تكون الحواس جزءاً من قدسية الكون.

لماذا اتخذت “زهرة اللوتس” رمزاً للقدرة الكونية؟ 🔗

من خلال هذا المفهوم (حول ترابط المشاعر الفطرية الجميلة بالقدرة الإلهية) اعتبرت زهرة اللوتس تعبيراً عن كنه القدرة الإلهية، لأن كنه الوجود - حسب المعتقدات الفطرية للإنسان - هو الذي يعطي للأمور معنىً واتجاهاً، وهذا ماتجسّده اللوتس في تحويلها لفوضى وجود المواد في المستنقع المحيط إلى كيان ذو رونق - عطراً وجمالاً ومعنى، بما يثير في الإحساسات الرضى.

صحيح أن زهوراً ونباتات كثيرة تمثّل نفس المبدأ في تحويل المواد إلى ثمار ذات اتجاه ووظيفة، ولكن اللوتس تجسّد ذلك المبدأ بتباينها الصارخ الفرق مع ماحولها وبوضوح كبير يجلب التفكير في أن تحويل العبثية في ماء المستنقع إلى تكوين خلاّق للزهرة - إعلان عن قدرة روحية لبرنامج كامن ضمن زهرة اللوتس. وليس هذا فحسب، بل إن تشكيل اللوتس قائم على ان البذور (التي تحوي برنامج حياة الزهرة) تبدأ بالظهور إلى العيان بازغة من مركزالزهرة حين يكتمل نموها وتقترب من مرحلة الموت، إشارة إلى دورة الحياة والموت. وكما سبق ذكره، فإن تكوين اللوتس يجسّد مبدأ “ترابط السبب والنتيجة” دون انفصال بينهما، وهو مبدأ هام التطبيق في الحياة الإنسانية لفهم الأسباب المؤدية للسعادة والأسباب المؤدّية للمعاناة.

اللوتس الأمريكية: وحدة الإنسان والكون 🔗

inline

تشير مصادر علم النبات (*) إلى عدد من أنواع اللوتس ألأمريكية المنتشرة في كندا والولايات المتحدة و المكسيك وأمريكا الجنوبية.

تبين الدراسات حول معتقدات السكان الأصليين من حضارة المايا في المكسيك استخداماً لزهرة اللوتس أثناء الطقوس الدينية، والتي كانت تهدف إلى تحريض شعورالإنسجام بين “الإنسان” كفرد و “روح الكون”. كان دور اللوتس يتركز على تحريض حاسّة الشم لإثارة شعور الحبور الروحي عند استنشاق عطر الوتس الكثيف والقوي التأثير. ويمكن اعتبار هذة الطقوس تجسيداً لوحدة الحواس الجسدية والمشاعر الروحية، والمترافقة أيضاً بالنشوة أثناء حفلات الغناء الروحي والرقص. وهناك رسومات من معبد Bonampak (**) يظهر كاهناً يرقص وهو مزدان باللوتس، وكذلك كاهنان يحيطان بآلهة وقد بزغت من رأسيهما زهرة اللوتس.

css

ويجدر القول أن هذا المرجع المذكور (حول ارتباط اللوتس بالطقوس الدينية للمايا) - كان بصدد أمر أثار استغراب الدارسين، وهو:

المقارنة بين استخدام زهرة اللوتس في الحضارتين : المايا الأمريكية والمصرية القديمة رغم عدم وجود أي اتصال بين الحضارتين.

inline

ومن تشابه الطقوس: تكليل الرأس بزهور اللوتس (*) في كلا الحضارتين، وكذلك في تصوير متشابه لفكرة خروج انسان من زهرة اللوتس، كما تشير اليه منحوتات من الحضارتين.

إن توارد فكرة خروج إنسان من اللوتس (او تلك التصاوير لجلوس إنسان على الزهرة بحيث يبدو خارجاً منها) - مشتركة أيضاً بين الآثارالفنية والدينية لحضارات لم يكن بينها أي اتصال أو تبادل. فماذا ياترى كان المعنى الباطني المحرضّ لفكرة دمج الإنسان باللوتس في تلك العقائد الروحية؟

اللوتس المصرية : رمز الحبور الروحي 🔗

css
css

اشتهرت اللوتس المصرية الزرقاء بقدرتها العميقة التأثيرعلى توليد الإحساس بالنشوة لدى مستنشقيها، إذ أن عبيرها كان كافياً لينقل الإنسان إلى حقل من الراحة النفسية والسلم الداخلي. وأصبحت بذلك مثالاً روحياً ومصدراً للشعور بالإجلال لعظمة الكون الذي جعل الزهرة قناة وصل بين العالم المادي للإحساس والعالم النفسي لمشاعر الفرد. صحيح أن هناك زهوراً كثيرة ذات عبير فوّاح، ولكن اللوتس فقط أعطيت مركز القدسية واستخدمت في طقوس دينية في الحضارة المصرية )وبما يشابه إلى حد كبير استخدام اللوتس في حضارة المايا(. كذلك يظهر ذلك الهاجس المشترك بين الحضارتين بإقران اللوتس بالإنسان. هناك سجلات وافرة جداً تصوّر ظهور “الإنسان الكامل” من الزهرة، والذي قد أعطيَ إسم نفرتم إله الجمال والعطر والرونق: Nefertem. كذلك تظهر زهرة اللوتس بوفرة في سجل الصلوات المعروفة ب"كتاب الرحيل إلى حياة قادمة" The Book of the Dead وهومجموعة من أوراق البردي تحوي الأدعية التي كانت تدفن مع جسد الميت لأجل ضمان سلامة رحلته عبر حقل الموت: من هذة الحياة إلى الحياة المستقبلية. وعديد من تلك الأدعية يتضمّن إعلان أو شهادة عن قيمة روح الراحل - وأنها تماثل في نقائها روح اللوتس، وذلك لمساعدته ومنع الأذى عنه.

inline

رغم أن هذة الكتابات (التي تعود إلى أكثر من 4000 سنة) قد ترجمت من اللغة المصرية القديمة إلى الإنكليزية ومنها إلى العربية - إلاّ أنها لاتزال تنبض بروح الإشراق والإتقاد والحيوية، مثلاً كما تقدم أحدها الكاتبة بسمة فؤاد: (*)

“أنا زهرة اللوتس التى تنمو فى الضياء المتألق لتصبح البهجة الفريدة للآلهة” .

inline

يكاد لايخلو من أي من الطقوس الدينية للإنسان المصري القديم تصوير تقديم زهرة اللوتس إلى مايمثّل الآلهة التي تحمل شعارالحياة Ankh- وذلك تقديراً من الإنسان لقدرة الكون (التي تعلن عن وجودها في كنه الزهرة). وبالإضافة إلى تلك الطقوس كانت الزهرة تتصدر حفلات موسيقية من الغناء والرقص بما يدمج حواس الجسد المادي في طقوس العبادة الروحية - أي يدمج الإستمتاع الحسّي بالإستمتاع النفسي. ذلك أن الحواس الخمسة بالذات هي الأقنية التي تربط الجسد المادي بالإحساس الروحي - مثلاً بالإحساس بالرونق في رائحة العطر، وأيضاَ الشعور بالحبور الجسدي والنفسي في الإتصال الجنسي.

css

إن المثير في هذة المعتقدات أن اللوتس لم تعتبر مجرد زهرة من عديد من الزهور الجميلة، بل اعتبرت ذات اتصال في علاقة حميمة بالإنسان. فبالإضافة إلى تقديس الإستمتاع بالإحساسات التي تثيرها، يظهر الإنسان خارجاً منها في عدد من تصاوير “كتاب الراحل : The Book of the Dead “.

inline

وكذلك تظهراللوتس في عدد من المنحوتات خارجة من رأس إله العطور"نفرتم Nefertem " – أو مايمكن تسميته “بالإنسان الكامل الجمال”، إذ ترمز كلمة “نفر” إلى كل ماهو جميل، عطر، كامل الصفات (*).

inline

على أن مغزى اللوتس يأخذ عمقاً كونياً في قصّة الخلق المصرية التي تشير إلى مفهوم الخلق على أنه ظهور النور والنظام order من محيط الظلام والفوضى chaos الذي كان يعمّ الوجود الأزلي (محيط نون). وهذا المفهوم يقتضي أن بدء الوجود هو إنبثاق النور من الظلمة - أي ظهور الإنارة والنظام من ضمن الظلام والعشوائية (**) - ممثّلاً ببزوغ زهرة اللوتس من الوحل.

ويؤخذ انبثاق اللوتس على أنه إعلان من جبروت الخلق الذي يحوّل الفوضى والوحل إلى كيان من النقاء والجمال الإلهي. وهناك علاقة مباشرة بين اللوتس والنور: فهي تفتح أوراقها لتستقبل شروق الشمس، وتغلق أوراقها لدى الغروب، ثم تنبعث من الماء في صباح اليوم التالي لتستقبل شروق الشمس من جديد،

ولذلك ارتبطت دورة حياة اللوتس المصرية بإله الشمس “رع” (*).

وكما نوّه إليه سابقاً فإن وفرة تلك المعلومات الزاخرة يعود إلى أن عملية الكتابة والتسجيل في مصر القديمة كانت بحد ذاتها تنفيذاً لإرادة الآلهه. وتذكر موسوعة العالم القديم أن مفهوم “اللغة” في مصر القديمة نطقاً وتسجيلاً medu-netjer يحمل معنى: “the gods’ words” أو “كلمات الآلهة” – وهذا مصدر كلمة “هيروغليفية” hieroglyphics أي “اللغة المقدسة”(**).

ورد ذكر زهرة اللوتس في ملفات تعود الى أكثر من أربعة أالآف سنة من الآن، و استخدمت في المجتمع في شتى المجالات - حتى في نظام الرياضيات العشري الذي نشأ في مصر والذي نستخدمه حالياً - معطياً اللوتس إشارة الى الرقم 1000.

لاتزال بعض الكلمات المحلية متأثرة باللغة المصرية القديمة، ومنها كلمة اللوتس Sesen(***) والتي اشتقتّ العبرية منها كلمة “شوشانا” والعربية كلمة “سوسن” ومنهاالفارسية واللاتينية والإغريقية ثم الفرنسية القديمة في لفظ Suzanne سوزان - كما في عديد من لغات العالم المختلفة:

اللوتس الآسيوية : رمز النقاء الروحي 🔗

css

من النادر أن تجتمع العقائد الروحية المختلفة على اتفاق تلقائي فيما بينها حول رمز معيّن. ولكنّ إجماع كل الديانات الآسيوية المنشأ على تقديس اللوتس قد أدى إلى تبني علم النبات - اللاديني في طبيعته - تسمية اللوتس الآسيوية ب"اللوتس المقدسة” (*) Sacred Lotus والتي تنتشر في مناطق عديدة - من التيبت إلى سرلانكا، ومن اليابان إلى كوريا والهند إلى جنوب شرق آسيا، وكذلك في مناطق أخرى في روسيا والصين.

ورغم اختلاف وتعدد العقائد الدينية في تللك المناطق الشاسعة - إلاّ أنها جميعاً تعطي اللوتس التقدير الروحي - ليس فقط رمزاً للجمال والنقاء، ولكن بالإشارة إلى كونها مثالاً للإنسان لإمكانية عدم التأثر بصعوبات المحيط.

تشير الميتولوجيا الهندوسية الى أن زهرة اللوتس بالذّات قد نبعت من “روح الكون”. ممثلاً بالثالوث: الخالق (براهما) الذي يمثّل مرحلة الولادة والخلق، والمسيّر (فيشنو) الذي يمثّل مرحلة الإستمرارية والنمو، والمدمّر(شيفا) الذي يمثّل مرحلة الموت. لذلك فإن اللوتس تظهر باستمرار في مجموعة كبيرة من المعتقدات المحلية للقوى الروحية ومنها مثلاً الآلهة “لاكشمي” التي تمثّل الجمال والقدرة التي تجلب الثراء والقيم الرفيعة - وتظهربازغة من زهرة لوتس قانية بلون لباسها الأحمر المعبّر عن الإتقاد و الحيوية.

لذلك أعطيت الآلهة “لآكشيمي” اسم مصدرها: زهرة اللوتس والتي يشار اليها باللغة السانسكريتية بكلمة: “كامالا”.(*)

inline

وتستخدم كلمة “كامالا” (بمعناها:“زهرة اللوتس” )- في عديد من اللغات الآسيوية () وذلك بصفتها الأنثوية أساساً، ولكن بشكل موازٍ لذلك أيضاً يعطى لهذة الزهرة الجنس الذكري، ويشار إليها بكلمة “كمال” في عشرة لغات() . ويشتقّ لهذة الكلمة أيضاً مرادفات تعني: “معجزة”، “الكمال التام”، و"الروعة” (**). ومن دون شك، إن توارد مفهوم “الكمال” وقدسيته في اللغة العربية ، ونفس مفهوم “كمال” و “كامالا” مقروناً بقدسية اللوتس في السانسكريتية - أمرمن مصادفة ليس لها تفسير.

inline

وهناك أيضاً أمر آخر ليس له تفسير، وهو مصادفة اتفاق عدد من الحضارات على إقران اللوتس بالمهد الإنساني - أي بتصاوير واضحة ومتكررة على اتخاذ اللوتس مقعداً لإنسان في وضع العبادة أو التقدير الروحي )لحياة الكون(.

تجتمع الديانات الرئيسية في شرق آسيا : الهندوسية، الجانيئية والبوذية - في اعتباراللوتس رمزاً كونياً لقدسية الحياة وتكاد لاتخلو صورة أو تمثال للبودا (إنسان الإنارة) من كونه جالساً على - أو خارجاً من - زهرة اللوتس.

ظهر البودا في حوالي القرن الخامس قبل الميلاد أي بما يقارب 2500 سنة من الآن، وسجلّ اتباعه الأفكارالتي تقدم بها في كتابات تدعى ب “السوترا” وتعني “سجل التعاليم”.

inline

هناك عدد كبير من السوترا المختلفة في مجالاتها ولكن أكثرها عمقاً وأوسعها انتشاراً هو “سوترا اللوتس”.

تعتبر “سوترا اللوتس” أقدم سجل في التاريخ حول المساواة بين كافة الناس دون أي تمييز :عنصري،أواجتماعي، أو جنسي - وذلك في تأكيد تعاليمها أن كل فرد ذو أحقية فطرية وإمكانية للوصول إلى وضع الإنارة الروحية والفكرية )والتي هي أعلى مراحل الإنسانية وأعلى درجات السعادة(.

inline

تبيّن سوترا زهرة اللوتس أن كل الظواهر في الطبيعة، وكافة مجريات الأمور والأحداث التي نحياها - هي تجسيد لقدرة كونية شاملة تتغلغل كل الوجود. هذة القدرة الكونية هي النظام الذي تسري حسبه ظواهر العالم. فظواهرالطبيعة ليست مصادفات عشوائية، بل هي تجسيد لقانون يحدد كيفية ارتباط أسباب الأمور بنتائجها في الواقع. وكذلك الأمر أيضاً في علاقات الكائنات الحية.

فالمشاعرالتي نحياها هي نتيجة لأسباب معينة مرتبطة بها دون انفكاك. وضمن هذة النظرة يبدو وضوحاً أن “القانون الكوني الذي يربط الأسباب بنائجها” هو الذي يحدد مسار كل مافي حياة العالم من أحداث: فهو الذي يعطيها المعنى ويحدد المشاعر المترافقة سعادةً أو معاناة. على أن نتائج الأحداث في مسار الحياة الفردية ليست مفروضة مسبقاً، بل هي تابع لوجود عدد من الإختيارات أو الإمكانيات. المهم هو أنه ليس هناك من حتم مفروض على الفرد أن يتبعه، بل إن الإنسان مسؤول عن موازنة الدوافع أو الأسباب التي تصنع تبعاتٍ هوعنها بمسؤول. ولو أن الفرد قد أدرك مسبقاً نتيجة ماهو يفعل حالياً من أسباب - إذن لكان من الممكن تفادي أوضاع المعاناة، بل والقيام باستدعاء أوضاع من التقدّم والسعادة.

تبيّن تعاليم سوترا اللوتس أن إستنارة وعي الفرد إلى عمل قانون السببية في الحياة هو أمر ممكن، بل هو إمكانية واقعية في حياة كل إنسان ، لأن حقل الإنارة عبارة عن فكر موجود بشكل فطري في العقل الباطن منذ الولادة. وحين تتقد روح الفرد برغبة إلى حقل الإنارة فإن مسار حياة الفرد تنسبك بحكمة ودفء قلبي مع حياة المحيط ضمن شعور بالطمأنينة والإتساق والمعنى. وتعتبر سوترا اللوتس ثورية في طبيعتها - إذ أنها تخالف كثيراً من المذاهب البوذية القديمة في تفسيرها أن المعاناة نتيجة لوجود الرغبات. على العكس من ذلك، تؤكّد تعاليم اللوتس أن قيادة الرغبات والشعور بالإستمتاع بماهو مفيد إنما يساعد على حياة القيمة والإنارة.

فحين تكون الرغبات والدوافع التي تدفع الفرد للفعالية مصدراً للإتزان والتقدير (مع الذين يرتبط بهم في الواقع) - تصدر في حياته موجة من السعادة صادرة عن قدرة القانون الذي تحرّك حياة الإنسان. أما حين تكون الأسباب والدوافع التي يقوم الفرد بها مصدراً لفقدان الإتزان ولعدم التقدير (مع الذين يرتبط بهم في الواقع) – عندئذ تصدر عن قدرة القانون الذي يحرّك حياة الفرد ضمناً - موجة من مشاعر المعاناة.

هناك تشابه كبير بين هذة النظرة الفلسفية حول عمل قانون الوجود (الذي يحرّك حياة الفرد) - وبين نظرة الديانات السماوية حول وجود القدرة الإلهية ضمن حياة الفرد، وأيضاً حول مبدأ حتميّة ظهور التبعات اللاحقة (أو مسؤلية الفرد عن نتائج الأعمال السابقة).

تبيّن فلسفة اللوتس أن التبعات ونتائج الأفعال الماضية للفرد تتسجّل تلقائياً في العقل الباطن للإنسان. وهذا “السجل الداخلي” لحياة الفرد (وهو مايدعى بالكارما Karma) يحوي أيضاً دوافعاً إنسانية سامية يمكن ان توجّه الفرد إلى الرغبة في النمو الفكري والروحي، وفي اتقاء المعاناة وفي الإستمتاع بالحياة مع الآخرين. ,يدعى هذا الحقل الفكري الشعوري بحقل الإنارة الفطرية (أو حقل الطبيعة المنارة للفكر).

هذا الوضع الروحي من الحكمة ورونق المشاعر الإنسانية تمثّله زهرة اللوتس: في حبور انتصابها صرحاً في المحيط، وفي ايحاء تكوينها أن الدوافع والأسباب الجيدة إنما هي كالبذور تنمو إلى ازدهار من القيمة والمعنى.

زهرة اللوتس في حضارات الشرق الأوسط 🔗

رغم أن الحضارات الغابرة التي سادت الهلال الخصيب والعراق وإيران - كانت في وضع نزاعات وقتال أومنافسة فيما بينها في كل المجالات، ولكن تقديرها المشترك لمغزى زهرة اللوتس يتضح في سجلات تاريخية وآثار تشير إلى فكر إنساني متشابه (أو بالأحرى: متطابق) فيما بينها على الأقل حول زهرة الوتس.

فرغم الإختلاف الكبير في نظام المعتقدات الدينية فيما بين تلك الحضارات، نجد أن كثيراً مما تركته الحضارات السومرية، البابلية ، الآشورية، الكلدانية والفينيقية يشير إلى إعطاء اللوتس مركز اعتبار رئيسي.

inline

هذا ما يشير إليه الكثير من الآثار الآشورية، التي تظهر زهرة اللوتس ضمن جو يوحي بالإتقاد، مفعم بالإثارة وقوة الحياة - كما يبين مثلاً نحت من العاج يظهر أنثى عارية يحيط بها أسد – وهي تقف فوق الزهرة وممسكة أيصاً باللوتس في كل من اليدين - كما وجد في قلعة شلمانصر الآشورية في نمرود - من حوالي900 قبل الميلاد. (*)

inline

وفي قطعة فنية أخرى: شاب يرفع يده في تحية سلام وهو يحمل زهرة متقدة للوتس اكتشفت في حفريات في موقع النمرود (محافظة نينوى) في العراق في 1950.

تظهر اللوتس بشكل مكثف في كثير من الآثار الفارسية، ويشار إليها في المعتقدات الزارادشتية كتجسيد لقدرات خفية كامنة في عمق الماء والذي تظهر اللوتس على سطحه. ويذكر بحث من “جامعة آزآد الإسلامية” (نشر في مجلة علم الحياة)Life Science Journal (*) في 2011 - حول تأثير اللوتس على حضارات الشرق ألأوسط من أن زهرة اللوتس قد رافقت حضارات الآشوريين والفينيقيين في كثير من الإنجازات الفنية - ليس فقط في احتفالات الحياة اليومية ولكن أيضاً في طقوس الدفن حيث كانت الزهرة تعتبر تعبيراً عن البعث بعد الموت.

يذكر البحث في خلاصته أن تأثير الإعتقاد بقدسية اللوتس قد استمر في ايران حتى عصر الساسانيين Sassanid period في تصوير لملك الساسانيين يتلقى خاتم المُلك من أهورا مازدا Ahora Mazda جالساً على مهد من زهرة اللوتس. كذلك يظهرنحت من حوالي 500 قبل الميلاد (**) في آثار مدينة تخت جمشيد Persepolis الملك داريوس يدعمه أمير يقف خلف العرش وكلاهما يحمل زهرة اللوتس في اليد اليسرى، كما يبدو، جزءاً من طقوس إعلان السيادة وسلطة الحكم. نقش برجسته ی نیلوفر آبی در پارسه (تخت جمشید)

inline

وبالطبع فإن الإثارالموجودة لدينا حالياً حول اللوتس أقل بكثير جداً مما كان متوفّراً قبلاً في مسار الزمن. ولعل أعمدة تدمر التاريخية مثال لقليل منها قد بقي عبر التاريخ من آثار تبين زهرة اللوتس كتيجان على قمة تلك الأعمدة وكذلك تشكيل سقف معبد الإله بعل.

لقد أدرك القدماء معنى الإنبعاث حيّاً بعد الموت بوضع أكاليل من اللوتس - كما يظهره تابوت الملك احيروم الفينيقي لربما في حوالي ال 1000 قبل الميلآد (بلدة جبيل في لبنان) وفيه تظهر أكاليل من اللوتس وقد تدلت الزهرة إلى الإتجاه الأسفل، أي أنها في وضع الموت قبل انبعاثها من جديد في حياتها القادمة.

css

وفي الحضارة النبطية في الأردن، كما يظهر من آثار (خربة التنور مدينة الطفيلة) ظهرت اللوتس في عدد من الزخارف الحجرية (*). وبعد ظهور الإسلام كانت اللوتس تستخدم في الزخارف الفنية. وقد استخدمت اللوتس خصيصا في تشكيلات ذهبية لدى ترميم ضريح أبي الفضل العباس بن علي بن طالب في مدينة كربلاء - وهو تحفة فنية من الجهود والدقة والجمال. (**)

css

أما في الحضارة الإغريقية، فإن أشهر الأعمال الفنية في ذكر زهرة اللوتس كان في الملحمة الشعرية Odyssey لهوميروس، وهي قصصية مليئة بعناصر التشويق ووصف أحداث وغرائب خيالية صادفها البطل أوديسيوس (الذي كان محور حروب طروادة).

فلدى محاولته العودة إلى الوطن بعد كثير من المغامرات المدهشة، عبر أوديسيوس إلى جزيرة لوتفاجيا التي قدّم سكانها Lotus Eaters لبحارته طعاماً من زهرة اللوتس كان له تأثيراً مخدراً جعلهم يشعرون بالسعادة والرضى في مكوثهم هناك، وبما أفقدهم الرغبة في متابعة الرحلة معه إلى منزله في إيثاكا (*).

والفكرة الأساسية في هذة الأسطورة تكمن في أن طعام محضّر من اللوتس له تأثير مسالم يستدعي شعوراً بالرضى وعدم الرغبة في النزاعات.

ولربما تعود فكرة “آكلي طعام اللوتس” في القصّة الخيالية المذكورة إلى استخدام هوميروس لما ذكر من تأثير استخدام اللوتس في الطقوس المصرية القديمة، حيث كان استنشاق عطرها الكثيف مثيراً للرضى والإحساس بالوجود المسالم، جزءاً من المعتقدات التي كانت سائدة لمئات السنين.


.تم تعيين آخر مكان وصلتم اليه